الحقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه أن القياس أصْلٌ أصيلٌ من أصول الفِقْه، بل لا نَعْدُو الصَّوابَ إذا قلْنا: إنَّ القياسَ منْ أدق مباحِثِ أصُول الفِقْه وأعْمَقِها أَثَرًا.
وقد اختلفَ العُلَمَاءُ في كَوْن القياس أصْلًا من أصُول الفِقْه أو ليْسَ بأصْلٍ، ولكلِّ فريقٍ أدلَّتُه وبراهينُهُ:
حيث ذَهَبَ الأكثرَون من جُمْهور الأصوليِّين والفُقَهاء إلى أن القياس أصْلٌ من أصول الفِقْه، ودليلٌ من أدلَّتِه كالكِتَاب والسُّنَّة والإجْمَاع.
بينما يرَى إمامُ الحرمَيْن أن القياس لَيْس بأصْلٍ من أُصول الفِقْه، وحجَّتُه علَى ذلك أن الأدلَّة إنَّما تُطْلَق على المقْطُوع به، والقياسُ لا يُفيدُ إلَّا الظنَّ، وهذا مَمْنوعٌ.
وكلام إمام الحرمين ممنوعٌ؛ لأن القياس قد يكون قطعيًّا.
وقد وجَّه العلَّامةُ الشِّربينيُّ ما قاله إمامُ الحرمَيْن بقوله: الظَّاهِرُ أن أصُولَ الفقْهِ عنْد إمامِ الحرمَيْنِ لا تُطلَقُ إلَّا على ما يُثْبِتُ الفِقْهَ بالاستقلال؛ بألَّا يحتاج في الدَّلالَةِ على الحُكْم لأَحدِ هذه الثَّلاثة ضرورةَ تَوَقُّفِهِ علَى العلَّة المَنْصُوصة بأحدها، أَوِ المستَنْبَطَة مما نصَّ عليه به، فثبت أن كونه حُجَّةً، لا ينافي أنَّه لَيْس منْ أصُول الفقْه.
وقد يقول قائلٌ: إنَّ الإجماع يفتقر أَيْضًا إلَى السَّنَد، فيَنْبَغي أَلَّا يكونَ مِن الأصُول عَلى هذا.
وقد كفَانَا مؤنَة الردِّ صاحبُ "التَّلْوِيح"، حيْثُ أجابَ بأنَّ الإجماع إنما يحتاج إلى السَّنَد في تحقُّقه لا في نفْس الدَّلالة علَى الحُكْم، فإن المستدلَّ به لا يحتاج إلى ملَاحَظَة السَّنَد والالتفاتِ إلَيْه بخلاف القياسِ، فإنَّ الاستدلال به لا يُمْكِن بدون اعتبار أحَدِ الأُصُول الثلاثةِ - القُرْآن، السُّنَّة، الإجْمَاع - وحينئذٍ، فحيْثُ احتاج القياسُ في الدَّلالة علَى الحُكْم إلى الغَير لا يصحُّ إطلاق الأصْل عليه؛ لما أن الأصْلَ ما يُبْنى عليه غيْرُه، وهو المحتاجُ إلَيْه، والقياس مبنيٌّ على غيره، ومحتاجٌ إلَى ذلك الغير.