للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا نزلَتْ بالنَّاس حادثةٌ جديدةٌ لا عهْدَ لهُمْ بها، أو عَنَّتْ لهم مسْأَلةٌ لم تكن منْ ذي قَبْل، أُضِيفَ للقانونِ ما يَسُدُّ الحاجةَ ويُكَمِّل النقْص. ولكنَّ الأحكام الإلهيَّة لا مجال للرأْي فيها، فلا يُزَاد أو ينقص فيها بالهَوَى، كما أن نصوصَ التَّشْريع التي بيْن أيدينا - محصورةٌ ومحدودةٌ؛ فلا سبيل إلى أن تَتَّسِع هذه الشريعةُ الغَرَّاء لمصالِحِ النَّاس، وما يَنْزِل بهم من شُؤُون وأحداثٍ، إلَّا بأنْ نَتَّخِذَ من تلْكَ النُّصُوصِ الكثيرةِ أصولًا نَرُدُّ إليها فروعَهَا ونَقِيسُ عَلَيْها أشباهَهَا.

إِذَن القياسُ هو المصْدَر الرَّابعُ مِنْ مصادر الشَّريعة الإسلاميَّة، باعتبار دَلَالَة المصادِرِ الثَّلاثة - القرآنِ، والسُّنَّة، والإجْمَاع - علَيْه، كما أن منزلة القياسِ منْ هذه المصَادِر الثَّلاثة منزلةُ المُؤَكِّد، أو النَّاسِخِ، أو الشَّارحِ، أو المُكَمِّل ما لم يكن مردُودًا بَاطِلًا.

والقياسُ مصْدَرٌ مهمٌّ لا بدَّ منه، ولا غِنَىً للمجتهد عَنْه؛ لأنَّه الهادي إلى عِلَلِ الأحْكام، والكاشِفُ عَنْ أسْرَار التَّكَاليف.

غير أنه يُلَاحَظ قبْل العَمَل بمقتضَى القياسِ أنَّه لا بدَّ من البَحْث عَن النصُوصِ، وَموَاقِع الإجْماع، حتَّى لا يعمل المجتهدُ بمقتضى قياسٍ بَاطلٍ أو مردُودٍ من حيْثُ لا يَشْعُر؛ لمعارضته لِمَا لَمْ يعلَمْه من القواطِعِ، أو الظَّواهر التي هي أرْجَحُ منه.

ويُعتبر القياسُ منْ أشقِّ مصادر الشريعة الإسلاميَّة على المجتهد وأشدِّها حاجةً إلَى ذكاءِ عقْلِه، وصفَاءَ رُوحِهِ؛ لأنَّ المصادر الثلاثَةَ الأُخْرَى مبْنَاها النَّقْل، أما القياسُ فمبناهُ معرفةِ عِلَلِ الأحْكام، ووجود هذه العِلَلِ في الفُرُوع، وهذان الأمران يحتاجان إلى فِكْرٍ وتأمُّلٍ واعتمادٍ على العَقْلِ والذَّكاء.

ولقد حاول قوْمٌ اطِّراحَ النَّظَر في القياسِ، فأخَذُوا يتلقَّفون الشُّبَه ويتصيَّدون المآخِذَ ليغتالوا من الشريعة الإسلاميَّة أَصْلًا أصيلًا من أصُولها، وركْنًا ركينًا من أرْكَانها.

وهمْ بِهذَا يحولُون بَيْن الشَّريعة الإسلاميَّة وبَيْن مهمتها في الحياة، وهي أنْ تبْقَى أبَدَ الدهورِ قانونًا للنَّاس، وأن يجد النَّاسُ فيها على اختلافِ زمانِهِمْ ومكانِهِمْ كلَّ ما يطْمَحُون إليه في الدُّنيا والآخِرَة.

لا سيَّما، والنصوص كما قلنا - محدودةٌ محصورةٌ، والوقُوفُ عنْد ظواهرها تقْصيرٌ وتفريطٌ، ولا يمتنع التَّقْصِيرُ والتَّفْريطُ في شيءٍ ما يمتنعان في اسْتِنْبَاط الشرائع، وتعرُّف الأحكامِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>