الأحكام، والجوابُ بعد تسليم أن يكون لكلِّ واقعةٍ تشريعٌ: هو أن الذي لا يتناهى الجزئياتُ لا الأجناس، ويجوزُ التنصيصُ على الأجْناس كلِّها بعموماتٍ تتناولُ جُزْئيَّاتها، حتى تَفِي بالأحكام كلِّها؛ مثل قولنا: كلّ مُسْكِرٍ حرامٌ، وكلُّ مطعومٍ رَبَوِيٌّ، وكلُّ ذِي نابٍ حرامٌ، إلى غير ذلك. ذكر هذا ابنُ الحاجِبِ في "مختصره".
إذن القائلون بالوجوب اشتبه عليهمْ عدَمُ تناهي الجزئيات بتناهي الأجْنَاسِ، وصرَّحوا بأن الأحكام لا نهاية لها، والنصوصُ لا تَفِي بها؛ لذا كان التعبُّد بالقياس واجبًا عقلًا لتَشْمَل الأحكامُ جميعَ الوَقَائِع.
وتحقيقُ المَسْألةِ أن الذي لا يتناهى الجزئياتُ لا الأجناس، فجزئياتُ الشريعةِ كَثيرةٌ لا تُحْصَى؛ لأنها تتجدَّد بتجدُّد الحوادث فيتعذَّر النصُّ على كل جزئيَّة من جزئيات الشَّريعة.
أما الأجناس، فيجوز النصُّ عليها بعموماتٍ تكونُ متناولةً لجزئياتها؛ كقولنا: كلُّ مسكرٍ حرامٌ، وقولنا أيْضًا: وكلُّ ذي نابٍ حرامٌ إلى غير ذلك.
لكنْ يترتَّب على تعميمِ الأحكام لكلِّ الوقائع: أنَّه لا يتأتَّى اختلافُ المجتهدين مع أن اختلافهم رحْمَةٌ، فتفوتُ هذه الرحمةُ الكثيرة، هذا إذا رأيْنا انحصار اختلافهم في القياسِ، وهو لا ينحصر فيه، بل يجوز اختلافُهم في غيْرِه من الظاهر والخفيِّ والمتشابه، فتختلف الآراء في فَهْمِ مدلولاتها، وأخْذِ الحكم الشرعيِّ مِنْها، فلا يترتَّبُ على تعميم الأحْكَام للوقائع عدمُ اختلافِ المجتهدين، وأيْضًا فإنَّ الأحكام الإلهيَّة عِنْد شرْعِها رُوعِيَت فيها مصالحُ العبادِ؛ تفضُّلًا مِنْه ورحمةً، وهي متفاوتة بحَسَب الزَّمان والمكان، فلا يُمْكِن ضبْطُها إلَّا بالتفويض إلى الرأْي، وإلَّا خلَتِ الوقائع والأحداثُ عن الأحكام؛ لعدم كفاية العُمُومات.
فلما كانَتْ مصالحُ العباد متفاوتةً بحَسَب الزَّمان والمكان، كان للرأْي فيها مدْخلٌ؛ لأن العموماتِ لا تنطبقُ على كل الحوادثِ مَعَ مراعاةِ تَفَاوُتها.
حُجَجُ المُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ ومُنَاقَشَتها:
احتجَّ المنكرون للقياسِ؛ فقالوا:
أوَّلًا: القياسُ طريقٌ لا يؤْمَنُ فيه الخطأ، والعقْلُ يَمْنَعُ من طريقٍ غير مأمونٍ؛ وعليه فالقياسُ ممنوعٌ عقلًا.