ويُرْوى عن داودَ الظاهريِّ إنْكارُ القياسِ في العبادات فقَطْ دونَ غَيْرِها من المُعَامَلَاتِ، ويُرْوى عن القاسانيِّ والنهروانيِّ أنهما قالا بوقوعِ القِياسِ، إذا كانتِ العلَّة منصُوصةً، ولو إيماءً، وأنكرا فيما عدا ذلك، ولَئِنْ ثبَتَ هذا عَنْهُم، يكون أخصَّ من الرواية الأُولى عنهم.
والذين ذهَبُوا إلى وُقُوع التعبُّد بالقياسِ اخْتَلَفُوا في دليل ثُبُوته، فالأكْثَر مِنْهم على أنَّه واقعٌ بدليلِ السَّمْع، وفريقٌ من الحنفية والشافعيةِ قالُوا بوقوعه بالعَقْل مع دليل السَّمْع، ثم اختلف القائلُون بوقوعه بدليل السَّمْعِ في أنَّ دليله قطعيٌّ أو ظنيٌّ؛ حيث يرى الأكْثَرُ مِنْهم أنَّه قطعيٌّ خلافًا لأبي الحُسَيْن البصريِّ، فإنه عنده ظنيٌّ، ولا ينافي هذا ما ثَبَت عَنْه فيما تقدَّم من القول بوجُوبِ التعبُّد بالقياس؛ إذ لا مانع مِنْ أن الشيءَ يجبُ أولًا، ثم يقع، فيجوز أن يكون وجوبُه قطعيًّا، ووقُوعُه مظْنُونًا.
ولِقَائِلٍ أن يقول: إنَّ معنى وجوبِ التعبُّد عنده أنَّه يجب على الشارع أو مِنْه نَظَرًا إلى الحِكْمَة الأزليَّة الثَّابتة لَهُ وما يجب على الشَّارعِ أو مِنْه يقع قطعًا، فقطعيَّةَ الوجوب ملزومُ قطعيَّة الوُقُوع، ومنافي اللَّازِم منافٍ للمَلْزُوم فلزِمَ التنافي، والجوابُ عن الإيرادِ المتقدِّم أن القَطْعِ بالوقوع عِنْده بالعَقْل، وأمَّا السَّمْعُ الدالُّ علَيْه فظنيٌّ؛ بمعنى أنه لم يَقُلْ بظنِّيَّة الوقوع، بل بظَنِّيَّة الدليلِ السَّمْعِيِّ الدالِّ علَيْه فقط.