للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإمَّا باختيار الشَّقِّ الثَّاني، وهو أن المُرَاد بِالْقَدْرِ المشتركِ عِصْمَةُ الأُمَّةِ، وقولكم: "يرجع إلى المعنى الأول" غير صحيح، بل هو معنى آخر يلزمه المعنى الأول.

المَسْلَكُ الثَّالِثُ: المَعْقُولُ:

ولنا فيه دليلان:

الدليل الأوَّل: أنَّهُم اتَّفقُوا في كل عصرٍ على القطع بِتَخْطِئَةِ المُخَالِفِ للإجماع من حيث هو إجماع، وعدُّوا تَفْرِيقَ عَصَا الجماعة من المسلمين أمرًا عظيمًا، وإثمًا كبيرًا، والعادةُ تحيل اجتماع هذا المبلغ من الأخْيَارِ المحقِّقِينَ من الصَّحَابة، والتَّابعين على قطع في حكم شرعيٍّ، لا سيَّما القطعُ بكون المخالفةِ أمرًا عظيمًا، إلَّا عن نصٍّ قاطع على خطأ المخالف، بحيث لا يكون للارتياب فيه احتمال، فإنَّهُ قد علم بالتَّجْرِبَةِ، والتَّكْرَارِ من أحوالهم، وفتاويهم علمًا ضروريًّا أنَّهم ما كانوا يقطعون بشيءٍ إلَّا ما كان كالشَّمسِ على نصف النَّهَارِ، ولا أدَلّ على تحفُّظهم ودقَّتِهِم من امتناعهم عن جمع القرآن؛ لأنه لم يجمع في عَصْرِ الرَّسُولِ، ولم يأمرهم به، ومن برضاهم بالزَّجِّ في السُّجُونِ، واستعذابهم الجلد، والعذاب دُونَ أن يفوهوا بما يُوهِمُ خلاف الشَّريعة، فبعيد على هؤلاء أن يَقُولوا، بل يقطعوا بحكمٍ، إلا عن نصٍّ قاطعٍ، وإذَا قطعنا بتخطئة المُخَالِفِ للإجماع قطعنا بحقِّيَّتِهِ وتصويبه، ونظم الدَّليل هكذا: لو لم يكن الإجماعُ حجَّةً قطعيَّة لما أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع، لكن التَّالي باطل، فإنَّ إجماعهم على ذلك أمْرٌ متوارث فيما بينهم، فالشَّكُّ فيه كالشَّكِّ في الضَّروريَّات، وإذا بطل التالي، بطل المقدَّم، وثبت نقيضه، وهو كون الإجماع حجَّة، وهو المطلوب، ودليل اللُّزومِ حكم العادَةِ المتقدِّم، وقد اعْتُرِضَ على هذا الدليل من وجوه:

الوجه الأول: أن فيه مصادرة على المطلُوبِ؛ لأنَّكم إمَّا أنْ تستندوا في إثبات الحجيَّة إلى إجْماعِهِمْ على القطع بتخطئة المخالف فقد أثْبَتُّمُ الإجماع بالإجماع، أو إلى نصٍّ قاطع في ذلك دَلَّ عليه إجماعهم عادة، فقد أثْبَتُّمُ الإجْمَاعَ بنصٍّ دَلَّ عليه إجماعهم، ولا يخفى ما في ذلك من المصادرة على المطلوب، وخلاصة الجواب عنه، أنَّا نستدلُّ على حجيَّةِ الإجْمَاعِ بوجود نصٍّ قاطع دَلَّنا عليه وجود صورة من الإجماع، وثبوت هذه الصُّورة من الإجماع، لا يتوقف على كون الإجماع حجَّة، فالمتوقِّف غير المتوقَّفِ عَلَيْهِ.

الوجه الثَّاني: قولكم: "العادةُ قاضيَةٌ بأن مثل هذا الاتِّقَاق لا يكون إلَّا عن نصٍّ قاطع"

<<  <  ج: ص:  >  >>