ومنها قوله ﷺ:"مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" أخْرَجَهُ الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي ذَرٍّ، إلى غير ذلك من الأحاديث الَّتي لا تُحْصَى ووجه الاستدلال بها أنها وإن رُويت آحادًا لكن الْقَدْرَ المشترك بينها - وهو عِصْمَةُ هذه الأُمَّة عن الخطأ، والضَّلَالة - قد تواتر وحصل العلم به لما صَرَّحُوا به من أن كثْرَة الآحاد المتفقة في معنى، ولو التزامًا توجب العلم بالقدر المُشْتَركِ بينها، وهذا العلم ضروريٌّ لا يحتاج إلى دليل، بل يعلم تحققه عند الرجوع إلى الوجدان، وهو المسمَّى في الاصطلاح بالتواتر المعنوي كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وجود حَاتِمٍ، وقد اعترض على هذا الدَّليل من وجهين: الأَوَّلُ أنا لا نُسَلِّمُ أن هذه الأحاديث بلغت مبلغ التواتر المعنوي، فإنَّهُ ليس بمستبعد في العرف إقدام عشرين على الكذب في واقعةٍ معيَّنةٍ بعبارات مختلِفَةٍ، والجواب أن ما ذكر تشكيك في الضَّرُورِيِّ فإنَّ كلَّ واحد من هذه الأخبار بانفراده، وإنْ جاز تَطَرُّقُ الكذب إليه إلا أن كلَّ عاقل يجدُ من نفسه بعد الاطِّلَاع على جملة هذه الأخبارِ أن قصد رسول الله ﷺ منها تعظيمُ هذه الأُمَّةِ، وعصمتها عن الخَطَأ كما علم بالضَّرورة سخاءُ حاتمٍ، وشجاعةُ عليٍّ، وإقدام عشرين، أو أكثر من العدول الأَخْيَارِ من أصحاب رسول الله ﷺ على الكذِبِ في واقعة من الوقائع مما لا يَكَادُ يُتَوَهَّمُ خصوصًا وقد تلقَّتِ الأُمَّةُ هذه الأخبار بالقَبُولِ، واحتجت بها في عصر الصحابة والتابعين على أنَّهُ لو تَمَّ ما قلتم لاقْتَضَى إنْكَار التَّوَاتُرِ المَعْنَوِيِّ رَأْسًا إذْ مثله يرد على كلِّ ما ادَّعَى تواتر معناه.
الوجه الثَّاني على تقدير تَسْلِيمِ تواتر هذه الأخبار، فتواتر المَعْنَى المُرَادِ، وهو الْقَدْرُ المشترك - غير مسلم؛ لأنه إمَّا أنْ يَكُونَ هو أن الإجماع حُجَّةٌ أو معنى آخر، فعلى الأوَّلِ يلزمكم ادِّعاءُ أن حجيَّةَ الإجماع متواترة، وأنَّ مثلها كمثل غزوة بدر، وذلك باطل وإلَّا لما وقع فيها خلاف وعلى الثَّاني فإنْ أردتم به تعظيم الأُمَّةِ مُطْلَقًا فلا يفيد الغرض، وإن أردتم به التَّعْظِيمَ المنافي لإقْدَامِهِم على الخطأ في شَيْءٍ ما، يعني عِصْمَةَ الأُمَّةِ رجع إلى الأوَّلِ وقد أبطلناه، وجوابه إمَّا باختيار الشِّقِّ الأوَّلِ، ونقول إنه مُتَواتِر قطعًا لا ريب فيه، وقولكم لو تواتر لكان كَغَزْوَةِ بدر، قلنا: هو كَغَزْوَة بدر. كيف وقد تواتر من لَدُنْ رسول الله ﷺ إلى الآن تخطئةُ المُخَالِفِ للإجماع؟ وهل هذا إلا تواتر لحجيَّته؟ والتواتر لا يوجب أنْ يَكُونَ الكُلُّ عالمين به؛ ألا ترى أن أكثر العوامِّ لا يَعْلَمُونَ غزوةَ بدر أصلًا؟ بل المتواتِرُ إنَّمَا يكون متواترًا عند من وصل إليه أخبار الجماعة، وذلك بمُطَالَعَةِ الوقائع، والمُخَالِفُونَ لم يطالعوا،