ألْمَحْنَا فِيمَا سَبقَ إلى أن الشَّافعيَّة اتَّبَعُوا في تَقْرِير قَواعِدِهم الأصوليَّةِ الاتِّجاه النظريَّ، كما أنَّهم سَلَكُوا أيْضًا هذا الاتِّجاه المَذْهَبيَّ المتأثِّر بالفُرُوع في بَعْض مؤَلَّفاتهم. ولقد حَمَل هذا اللواءَ الإمامُ العلَّامة جمالُ الدِّين الإسْنويُّ (٧٧٢ هـ) في كتابه القَيِّم "التَّمْهِيد في تَخْرِيج الفُرُوع على الأُصُول".
وهو الاتِّجاهُ الَّذِي يَجْمَع بَيْنَ المَذْهَبِ النَّظَريِّ، والمَذْهَب المُتأثِّر بالفُرُوع، وعُرِفَ هذا الاتِّجاه بـ "اتِّجاه المتأخِّرين"، أو "مَسْلَك المتأخِّرين".
قال العلَّامة ابنُ خَلْدُونَ (١): "وجاء ابْنُ السَّاعَاتيِّ من فقهاءِ الحنفيَّة، فجمع بَيْن كتابِ "الإحْكَام" وكتاب البَزْدَوِيِّ في الطريقَتَيْنِ وسَمَّى كتابَهُ بـ "البَدَائِعِ"، فجاءَ مِنْ أحْسَنِ الأوضاع وأبْدَعِها، وأئمَّةُ العلماء لهذا العَهْد يتداولُونَه فراءةً وبَحْثًا، وأُولِعَ كثير من عُلَماءِ العَجَمِ بشَرْحِه".
يقول ابن السَّاعَاتيِّ في مقدِّمة كتابه:"لَخَّصْتهُ مِنْ كِتَابِ "الإحكام"، ورَصَّعْتُهُ بِالْجَوَاهِرِ النَّقِيَّةِ مِنْ "أُصُول فَخْر الإِسْلامِ"، فَإِنَّهُمَا البَحْرَانِ المُحِيطَانِ بِجَمِيعِ الأُصُول الجامِعَانِ لِقَوَّاعِدِ المَعْقُولِ وَالمَنْقُولِ، هذا حَاوٍ لِلْقَواعِدِ الْكُلِّيَّةِ الأُصُوليَّةِ، وذاكَ مَشْمُولٌ بِالشَّواهِدِ الجُزْئيَّةِ الفَرْعِيَّةِ".
ومن أنصارِ هذا الاتِّجاه الإمامُ صَدْرُ الشَّرِيعةِ (٧٤٧ هـ) صاحبُ "التّنقِيحِ"، وله شَرْحٌ عليه يُسمَّى "التَّوْضِيحَ"، حَيْثُ لخَّص فيه "أصول البَزْدَوِيِّ" على طريقة الحنفيَّةِ، و"المَحْصُولَ" للرَّازيِّ على طريقة الشافعيَّة والمتكلِّمين، و"المُخْتَصَر" لابْنِ الحَاجِبِ على طريقة الشَّافِعية والمتكلِّمين أيضًا.
ثم جاء التَّفْتَازَانِيُّ (٧٧١ هـ) فَكَتَبَ على "التَّنْقِيحِ" قال في مقدِّمة كتابه: "وَسَيَحْمَدُ الغَائِصُ فِي بِحَارِ التَّحْقِيقِ، الفَائِضُ عَلَيْهِ أنْوَارُ التَّوْفِيقِ، مَا أَوْدَعْتُ هذا الكِتَابَ الَّذِي لا يَسْتكْشِفُ القِنَاعَ عَنْ حَقَائِقِهِ إلَّا المَاهِرُ مِنْ عُلَمَاءِ الفَرِيقَيْنِ - أيْ: الحَنَفِيَّةِ والشَّافِعِيَّةِ - وَلا يَسْتَأْهِلُ للاطِّلاعِ عَلَى دَقَائِقهِ إلَّا البَارعُ فِي أُصُولِ المَذْهَبَينِ، مَعَ بِضَاعَةٍ فِي صِنَاعَةِ التَّوْجِيهِ