نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [سورة الحشر: الآية ٧] وقول الرسول دلَّ على حُجِيَّةِ الْقِيَاسِ، فكان كتاب الله دالًّا على حجيَّةِ القِيَاسِ، فالقرآنُ نَزَلَ تِبْيانًا لكل شَيْءٍ لكن إجمالًا لا تفصيلًا؛ لانْعِدَامِ تفصيل الكُلِّ فيه قطعًا فيفصل بالاجتهاد.
وعليه فالمُرَادُ بما تقدم أن الكتاب بيانٌ لكل شيءٍ، وذلك إمَّا بدلائل ألفاظه من غير واسطة، وإمَّا بواسطة الاستنباط منه، أو دلالته على السُّنَّةِ والإجْمَاعِ الدالين على اعتبار القياس، فالعَمَلُ بالقياسِ عمل بما بَيَّنَهُ الكتاب لا أنه خَارِجٌ عنه، ومنها قوله تعالى: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [سورة النساء: الآية ٥٩]. فهو صريحٌ في أن الرَّد لا يكون إلا للكتابِ والسُّنَّةِ لا إلى الرأي، وحينئذٍ يكون القياس باطلًا؛ لأنه تشريعٌ بالرأي فلم يتحقق الردُّ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ.
والجواب على ذلك أنَّا لا نرده إلى مجرَّدِ الرأي كما زعم المعترض، وإنَّما نرده إلى العِلَلِ المستنبطة من نصوص الكتابِ والسُّنَّةِ والقياس عبارة عن تفهم مَعَانِي النُّصوصِ بتجريدِ مناطِ الحكم وحذف الحَشْوِ الذي لا أثر له في الحكم، فحينئذٍ يَكُونُ الرَدُّ إلى القِيَاسِ ردًّا إلى الكتاب، أو السُّنَّةِ.
وممَّا استدلَّ به المُنْكِرُونَ للقياسِ من طريقِ العَقْلِ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ، منها لا نُسَلِّمُ أن أحدًا من الصَّحَابَةِ استعمل القياسَ لإثبات حكم من الأحكام، وما نَقَلْتُم أخبار آحاد لا تفيد القطع، فيجوزُ عدمُ صِحَّةِ ذلك النقل، ومنها أن ما نقلتم عنهم من الأَخْبَارِ الدَّالَّةِ على استعمالهم القياس لا تَدُلُّ دلالة واضحة على كون فتواهم بالقياس، بل يجوز أن يكون عندهم نصوص جلية، أو خفية لم يذكروها، ولئن سَلَّمْنا فتواهم بالقياس، فإنَّ الأَقْيِسَة التي استعملوها جزئية لا تدل على صحة الاستدلال بجميع الأقيسة.
وجوابنا عن ذلك أن المنقولات وإن كانت كل واحد منها أخبار آحاد إلَّا أن الْقَدْرَ المُشْتَرَكَ بينهما وهو الفتوى بالقياس وكون عادتهم ذلك متواترًا يحدث العلم به بكثرة مطالعة أقضيتهم وتواريخهم، وعلم أيضًا من تكرَّر عملهم بالأقيسة أنه لم يكن بخصوص نَوْعٍ أو فرد، وعلم أيضًا بقرائن قاطعة للناقلين أنَّهُ لم يكن عندهم نصٌّ، والعادَةُ تقضي بأنه لو كان عندهم نصٌّ استدلوا به في فَتَاوِيهِم لكانوا أظهروه، وحصل لَنا علم به مقدم ظهور نَصٍّ في فتاويهم دَلِيلٌ على أنهم كانوا يستعملون القياس لإثبات الأحكام.
وعليه يَثْبُتُ أن القياسَ حجةٌ شرعية لإثبات الأحكام. ومن أدِّلَتِهِم أيْضًا أن العمل