أمَّا الآحاد: فلأنها لا تفيد، إذ لا يجب العمل به في الإجماع، وأما التواتر: فلأنه يجب فيه استواء الطرفَيْن والواسطة ومن البعيد جدًّا أن يشاهد أهل التواتر جميع المجتهدين شرقًا وغربًا، ويسمعوا منهم، وينقلوا عنهم إلى مثلهم، وهكذا طبقة بعد طبقة إلى أن يصل إلينا.
وقد أجاب عن شبهة المقامين كثير من المؤلفين بأنه تشكيكٌ في مصادمة الضرورة؛ لأنَّا قاطعون بإجماع كل عصر على تقديم القاطع على المظنون، وقد تواتر إلينا أيضًا إجماع الصحابة على ذلك بحيث لا شبهة فيه، وما ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا، وقد أورد الشوكاني عليه، وهو ممن يرى عدم إمكان نقله: أنه مصادرةٌ على المطلوب؛ إذ قد أثبتم إمكان نقل الإجماع بنقل الإجماع، وهو إثبات للشيء بنفسه، وهو إيراد ساقطٌ؛ فإنا قد أثبتنا مُدَّعانا بتحقق صورة خاصَّة مفروضة التسليم والثبوت من الطرفين، وهذه الصورة لا يتوقف ثبوتها والقول بها على القول بإمكان نقل الإجماع، وأورد ثانيًا أن تقديم القاطع أمر ضروريٌّ يعرف اتفاقهم عليه من أن مثله لا ينكره أحد؛ إذ من المعلوم أن كل متشرع لا يقدم الحجة الضعيفة على الحجة القوية، وأما من طريق النقل تواترًا فلا، فثبت أن العلم بالإجماع ونقله غير ممكنَيْنِ.
وجوابه كما يؤخذ من شارح "المسلم" أنه في القرون الثلاثة لا سيما القرن الأول كان المجتهدون معلومينَ بأسمائهم، وأعيانهم، وأمكنتهم، ومعرفة أقوالهم ومذاهبهم ميسورة للطالب الجادِّ، وكلهم في ذلك العصر مجدون؛ فإنهم يعلمون أن اتفاق كل المجتهدين حجة قطعيَّة من الأحاديث الواردة في ذلك؛ فهم يجدون في طلبه كما يجدون في طلب الكتاب والسنة، وقد علِمنا علمًا ضروريًا بطريق التجربة والتكرار، أي: تجربة الناس لهم وتكرار استفتائهم واحدًا بعد واحد - عدم رجوعهم عما هم عليه قبل قول الآخر، وقامت القرائن الجلية والخفية على أنهم لم يكذبوا لا عمدًا ولا سهوًا؛ كيف وهم الذين لم نسمع بمثلهم في عدالتهم، ودقتهم، ونزاهتهم، وتقديمُ القاطع على المظنون من هذا القبيل، فإنَّه علم بالمشاهدة أن المجتهدين من الصحابة والتابعين كانوا يقدَّمون القاطع على المظنون، وعلم أن ذلك كان مذهبًا لهم، وأن واحدًا منهم لم يرجع قبل تقديم الآخر، فثبت أن إجماعهم قد وقع من غير ارتيابٍ، فقد ثبت جليًّا أن العلم بالإجماع بطريق النقل أمْرٌ ممكن.