والقولُ بأن الأمْر بالاعتبار يَحْتَمِلُ أنْ يكون للنَّدْب، فلا يثبت به وجوبُ العَمَل بالقياس، ويَحْتَمِلُ أن يكون للحاضِرِينَ فقط، فلا يثبت لغيرهم، ويَحْتَمِلُ أن يكون للمَرَّة، فلا يثْبُت به التَّكْرار، وأنْ يكونَ ثَابِتًا في بَعْض الأحْوال والأَزْمِنَة، فلا يكون حجَّةً على الإطْلَاق.
كلُّ هذه احتمالاتٌ مردودةٌ، فإنَّ "اعتبروا" معناه: افْعَلُوا الاعتبار على سَبِيل الوُجُوب، إذِ الأصْلُ في صيغة الأَمْر أنْ تكون للوجوبِ، وهو عامٌّ يشْمَل الحاضِرِينَ وغَيْرَهم. وكونه للمرَّة - على خلافِ أوامِرِ الشَّريعة الغرَّاء، فهي عامَّةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ غَيْرُ خاصَّة بِقَوْمٍ دون آخرين فلا عبرة بهذه الاحتمالاتِ؛ لأنَّ التمسُّك بها يؤدِّي إلى إهْدَار كثيرٍ من النصوصِ الشَّرعيَّة، ولا يجوز إهدارُ نَصٍّ بحالٍ من الأحوال. فدلَّت الآيةُ على حجِّيَّة القياس، ثم اختلف القائِلُون بذلك في أن إفادتها قطعيَّةٌ أو ظنِّيَّةٌ، حَيْث صرَّح بعض العلماءِ إلى أنَّها ظنِّيَّة، فهي لا تُفيدُ إلَّا الظنَّ، وأورد عَلَيْه بأنَّه كَيْف يصحُّ القول بظنيتها مع أنَّها من الأُصُول الَّتي ينبغي أن لا يكتفى فيها بالظَّنِّ.
وَرَدَّ البيضاويُّ على ذلك في "المِنْهَاج" بما يفيد الاعْتراف بأنَّها ظنيِّة، حيْثُ قال:"قلْنا: المَقْصُود العَمَل، فيَكْفِي الظَّنُّ" وتوضيحُ ذلك أن هذه المسألة، وإنْ كانَتْ منَ الأُصُول إلَّا أن المقصُود مِنْها العَمَل، إذِ المقصُود من حجِّيَّة القياس العملُ بمقتضاه، فهي وسيلةٌ إلى الأحكام العمليَّة، فاكْتُفِي فيها بالظنِّ، كما اكْتُفِي به في المَقْصُود مِنْها، ولَيْسَت منَ الأصول المقصود بها التعبُّد في ذاتها، مثْل عقائد التوحيد، فإنَّ المقصود اعتقادُها اعتقادًا جازِمًا عنْ دليلٍ، فلا تثبت إلا عنْ الدليل القطعيِّ.
وصرَّح الجمهورُ أنَّها قطعيَّةٌ، فهي لا تحتمل احتمالًا يؤيِّده الدليل، والاحتمالاتُ القائمةُ لا يؤيِّدها بُرْهَانٌ، فلا تنافي القطعيَّة.
والظاهِرُ أن الاحتمالاتِ قويَّةٌ، فالحقُّ أنَّها تفيد الظنَّ على أن مَنْ ذهَب إلى قطعيَّة المسْأَلَة، وهِيَ كونُ القياس حجَّةً لا يقولُ: إنَّ كل دليلٍ عَلَيْها قطعيٌّ، بل يقول: إنَّ مجموع الأدلَّة يفيدُ القَطْع بها، وذلكَ كافٍ.
وخلاصةُ القَوْل: أن هنا أمرين:
الأوَّلُ: دلالةُ الأدلَّة السمعيَّة على حجِّيَّة القياسِ، هَلْ هي قطعيَّة أو ظنيَّةٌ؟