[اعتراف جميع الأمم بتوحيد الربوبية]
توحيد الربوبية يعترف به المشركون، ولكن هل يكفي؟ لا يكفي، لا بد من تحقيق ثمرته، وهذا التوحيد حجة عليهم في التوحيد الذي هو حق الله، يقال لهم: اعملوا لله ما دمتم أقررتم به.
يقول تعالى: {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:٨٤-٨٥] يعني: أفلا تعبدونه؟! {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:٨٦-٨٧] يعني: أفلا تتقون الشرك وتعبدون الله وحده؟! {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٨-٨٩] كيف تصرفون عن عبادته؟ فأصبح توحيد الربوبية حجة عليهم.
قال رحمه الله: [وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:١٠٢] ، وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:١٤] ، ولهذا لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] على وجه الإنكار له تجاهل العارف قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:٢٤-٢٨] .
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب.
وهذا غلط، وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحداً لله نافياً له لم يكن مثبتاً له طالباً للعلم بماهيته، فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بـ (ما هو) ، بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف] .
نلاحظ من هذا الكلام أن جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، أي: أن الله هو الخالق الرازق المدبر الذي أوجد الكائنات، لكن قد اشتهر عن فرعون أنه ادعى الربوبية، حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] ، والصحيح أنه كان معترفاً في الباطن بأن المخلوقات لها خالق؛ لأنه يعرف أنه كان معدوماً فوجد، ففرعون لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ثم خُلق، فيقال له: من ربهم قبل أن توجد أنت؟ ومن ربهم بعد أن تموت؟ فلا بد من أن فرعون معترف بوجود رب خالق، والدليل على ذلك هذه الآية، وهي قول موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:١٠٢] ، فالله أيد موسى بتسع آيات، هي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وتضليل الغمام، وما أشبهها، فلما أيده بها قال: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني: الآيات {إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء:١٠٢] ، فأفاد بأن فرعون عالم بذلك، وقال الله عن آل فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] ، فدل هذا على كونهم مستيقنين.
وكذلك حكى الله عن ثمود قوله في قصتهم: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:٣٨] يعني: على بصيرة مما جاءتهم به الرسل، ولكن جحدهم كان عناداً.
ففرعون أظهر الإنكار، ولكنه كان في الباطن على يقين بما يقول موسى، ولكنه خاف أن يذهب عنه ملكه، ولهذا قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:٥١-٥٢] يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢] ، فهو أراد أن يخدع قومه بما هو فيه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:٥٤] ، وأما جوابه لما قال موسى: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:١٠٤] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] فهذا على وجه العناد، وبعض المتكلمين يقول: إن فرعون سأل عن الماهية فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] يعني: من أي شيء رب العالمين؟ وما ماهيته؟ والصحيح أن سؤاله إنما هو تعنت، لا أنه كان يسأل عن الماهية، فموسى عليه السلام ذكر له الأدلة على إثبات الرب وقدرته وسيطرته، والآيات تدل على ذلك، قال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:٦٥] ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:٢٦] ، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:٢٨] ، فاستدل عليه بهذه الأدلة الكونية التي لا يجحدها، كما استدل إبراهيم على النمرود بقوله: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] ، ثم قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] ، فهذه أدلة تدل على أن الرب هو الموجد لهذه الكائنات، وهي أدلة يعترف بها أولو البصائر.
وقد ذكر الله عن المشركين أنهم يعبدون الله ويعبدون غيره في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم لا يعبدون إلا الله، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:٦٧] ، فدل على أنهم في الرخاء يعبدون الله ويعبدون غيره، ولهذا قال تعالى في سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:١٣٦] ، فدل على أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ولكن شركهم هذا أحبط أعمالهم فأصبحت باطلة، فلا يعتبر بما تقربوا به؛ لأن المطلوب منهم أن يكون الدين لله، وأن لا يصرف منه شيء لغير الله.