اشتهر أناس في الزمان الأول كانوا يسمون بالبله، وقد يسمون بالمجانين، وكان يقال لأحدهم: المجنون فلان، والمجنون فلان، ثم ينقلون عنهم أفعالاً ويقولون: إنهم ممن رفع عنهم القلم، وسقطت عنهم التكاليف وأشباه ذلك.
فنقول: ليس الأمر كذلك، والحديث الذي يتناقلونه وفيه:(أن أكثر أهل الجنة البله) لا يصح، بل الله تعالى ذكر أن أكثر أهل الجنة على لسان نبيه هم العاملون، وهم أولو الألباب، والله تعالى يذكر دائماً أولي الألباب -يعني: أهل العقول- ولا يذكر البله، ولا ناقصي العقول ولا المجانين ونحوهم؛ بل هؤلاء أقل أحوالهم أن تسقط عنهم التكاليف، ولا يكلف أحدهم إذا فقد العقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق) ، فالأبله ضعيف العقل، قريب من المجنون، فكيف يكونون أكثر أهل الجنة؟! بل هم إذا دخلوا الجنة فإنهم يعاملون على أنهم ممن أثيبوا لأجل أنهم لم يستطيعوا أن يعملوا لقلة فهمهم وعقلهم.
وبكل حال فهؤلاء الذين يسمون بالبله، قد انخدع بهم خلق كثير من المتقدمين والمتأخرين؛ بل وإلى زماننا، كما ذكر لنا أن هناك من المتأخرين في مصر وفي سوريا وفي كثير من البلاد الإفريقية من يعظمون هؤلاء الضعفاء، ويدعون أنهم أولياء، وأنهم ممن سقطت عنهم التكاليف، وأنهم ممن يأخذون الوحي بدون واسطة الأنبياء وأنهم وأنهم! ويقولون: إن من كراماتهم أن أحدهم إذا مات فإن الملائكة تحمله على النعش، والذين يحملونه فوق متونهم لا يحسون بثقله، فيخيل إليهم هذا، حتى قيل: إنه لما مات واحد من أولئك المجانين أراد أولياؤه أن يوهموا العامة أن هذا ممن حملته الملائكة، فصاروا يسرعون به سرعة زائدة، مع أنهم يحسون بثقله، ولكن كأنهم يقولون: انظروا -أيها العامة- أننا نحمله، وكأننا لا نحمل شيئاً؛ فالملائكة تحمله فوقنا، ونحن لا نحس به، فنحن الآن نسعى سعياً شديداً حتى كأننا لم نحمل شيئاً! وكل هذا لأجل إيهام هؤلاء العامة أنه من الأولياء، حتى يغلوا فيه، مع أنه مجنون لم يُعرف إلا بكلام ساقط.
والمتقدمون ترجموا لهؤلاء فيقولون: قال المجنون سحنون، قال المجنون بهلول! وهذه أسماء موجودة في كتب التراجم التي تتكلم عن كرامات الأولياء ونحوهم، ومع ذلك يعتدون بكلامه وهم يسمونه مجنوناً! وكذلك أيضاً يذكرون أنهم في بعض البلاد من جهلهم أو بلههم أن أحدهم يمشي عرياناً، فيقولون: هذا ممن سقط عنه التكليف! وهذا كان حتى في الزمن المتوسط في عهد الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب (سبل السلام) ، ففي قصيدته البائية يقول فيها: كقوم عراة في ذرى مصر ما على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب مع أنهم يمشون عراة ليس على عوراتهم ثياب، ومع ذلك يقولون: هؤلاء هم المجانين الذين سقطت عنهم التكاليف، وهؤلاء هم البله الذين لا حرج عليهم، ونقول: لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم.
فعلى كل حال: لا يُغتر بمثل هؤلاء؛ بل يُرد أمر الجميع إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما وافق ذلك فهو الصواب.