استخلاف أبي بكر إن لم يكن نصاً فهو بإشارة واضحة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [واحتج من قال: لم يستخلف، بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-) ، قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف.
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟) .
والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعده بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لـ أبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتابة اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر، فلو كان التعريض مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين، وفهموا ذلك حصل المقصود؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه، ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر، لا علي ولا العباس ولا غيرهما كما قد قال أهل البدع، وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال: أوفي شك صاحبك؟ نعم والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها] .
قد تقدم القول الأول أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت بالنص، وهذا قول ثان أنها بالإشارة، فهما قولان للعلماء: فالذين قالوا: إنها بالنص، استدلوا بقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فإن هذا نص على أن أبا بكر بعده، واستدلوا أيضاً بقوله للمرأة التي قالت: (أرأيت إن أتيت فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) فإن هذا نص أنه هو الذي يتولى الولاية بعده، واستدلوا بأنه أمره بأن يؤم الجماعة وأن يصلي بهم، وهذا نص بأنه هو الذي يكون إماماً متبعاً إذا اتبعوه في الصلاة، ولهذا قالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا.
أي: من قدمه لديننا إماماً، إلى آخر الأدلة التي سبقت.
هذا القول الأول.
أما القول الثاني: وهو أنه لم يستخلف، وإنما أشار إشارات، فيقولون: إن عمر رضي الله عنه قال: (إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذا عمر شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فنقول: لم يستخلف بالنص؛ لأنه لم يقل: أيها الناس! بايعوا أبا بكر فهو خليفتي عليكم، لكن قد عزم على أن يكتب له كتاباً وقال لـ عائشة: (ادعي لي أخاك وأباك أكتب كتاباً حتى لا يختلفوا عليه) ثم إنه ترك الكتاب وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فلم يقل: خليفتي أبو بكر مقالاً صريحاً، ولم يقل: بايعوه بعدي قولاً صريحاً، إنما هي أقوال عامة فيها نوع من الإشارة، ومجموع تلك الإشارات يصبح دليلاً صريحاً واضحاً لا خلاف فيه.
كذلك أيضاً سمعنا كلام الحسن لما قيل له: هل استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر؟ فقال: هو أورع من أن يتوثب عليها، يعني: ليس بمحب للولاية ولا راغباً فيها، ولكن لما اجتمعت عليه كلمة المسلمين، ولما جاءت هذه الإشارات من النبي عليه الصلاة والسلام باستخلافه؛ قبلها، وإلا فهو ورع وزاهد وخائف لا يمكن أن يقبلها بدون أن يكون أهلاً لها، وبدون أن يرضاه لها أهل الولاية وأهل الحل والعقد من الصحابة، هذا معنى قوله: يتوثب عليها.
فبلا شك أنه صلى الله عليه وسلم أشار هذه الإشارات التي تدل على أن أبا بكر أحق بالخلافة، ثم لما اجتمعت عليه الإشارات وكانت واضحة رأى عمر رضي الله عنه أنه أحق بالخلافة؛ فبايعه وبايعه الصحابة كلهم.
وخلاصة ما جرى في أول يوم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بيعة أبي بكر: أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وكادوا أن يبايعوا واحداً منهم وهو سعد بن عبادة، فلما سمع بهم عمر رضي الله عنه وأبو بكر وأبو عبيدة ذهبوا إليهم، ثم خطبهم أبو بكر رضي الله عنه وقال لهم: (الخلافة في قريش) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا: (منا أمير ومنكم أمير) أي: نؤمر أميراً على الأنصار، وأميركم منكم يا معشر المهاجرين! فقال أبو بكر وعمر: (بل الإمارة في قريش) ثم قال أبو بكر: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) فلما أقنعوهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وبإشارته تمت البيعة في نفس السقيفة، فبايعوه واجتمعوا عليه، ولم يتخلف منهم أحد، أما سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه لم يبايع في تلك الساعة رجاء أن يكون له حظ من الولاية، ولكنه بايع بعد ذلك بيعة مختار راضٍ، كذلك أيضاً علي رضي الله عنه قيل: إنه تأخر عن البيعة ثم بعد ذلك بايع، والصحيح أنه لم يتأخر، بل بايع باختياره وبطوعه وبما علمه من أهلية أبي بكر وأحقيته بهذه الخلافة.
ثم حصل من خلافته رضي الله عنه من الأهلية ومن ضبط الأمور وإحكامها غاية الإحكام، فرأوا أن الله تعالى اختاره للمسلمين في ذلك الوقت الحرج الذي كانوا فيه أشد احتياجاً إلى خليفة قوي يقيم فيهم أمر الله تعالى، ويرتب أمورهم ترتيباً محكماً، فهذا ما يسره الله لهم في ذلك الوقت، وما أنعم به عليهم.
إذاً: عرفنا بذلك أن خلافة أبي بكر وإن لم تكن نصاً فإنها بإشارات واضحة مجموعها يصبح نصاً قوياً.