ولا شك أن من استحضر دائماً أنه مكلف، واستحضر أن الله تعالى يوفق العبد الذي يستحضر عظمة ربه، واستحضر دائماً أنه ليس بمهمل، بل خلق للعبادة ولم يخلق هملاً ولا سدى؛ من كان كذلك وفقه الله.
وإذا استحضر أيضاً أن ربه لما كلفه ولما أمره ونهاه، كان في مرأى ومسمع من ربه لا تخفى عليه منه خافية، واستحضر أيضاً أنه في كل حالاته عنده الدافع الذي يدفعه إلى الخير، وهو قوة الإيمان وقوة هذا الاستحضار؛ لا شك أن من تمت معه هذه الاستحضارات فإنه لا يقدم على معصية، وكيف يقدم عليها وهو يستحضر عظمة الله تعالى وكأنه واقف بين يدي ربه؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أنه يترتب عليها عقوبة وإثم شديد؟ كيف يقدم عليها وهو يعلم أن ربه يكرهها؟ ولا شك أن العبد الذي يكثر من العبادات سواء كانت قلبية أو قولية أو بدنية، ثم يثق بالثواب عليها؛ أن ذلك يحجزه عن أن يأتي بضدها، ولا يجتمع أنه في آن واحد يطيع الله ويطيع الشيطان، ولا يجتمع أنه في آن واحد يعبد الله ويعبد الأصنام مثلاً، ولا يجتمع أنه في آن واحد يكون مستحضراً لعظمة الله تعالى وغافلاً عنه مقبلاً على هواه، بل متى تمت له هذه الاستحضارات عبد ربه وأكثر من عبادته وأقبل عليه إقبالاً كلياً، ومتى كان كذلك فإن ربه تعالى يسدد خطاه ويوفقه، ويحبب إليه العبادة ويحميه عن المعصية، كما في قوله في الحديث القدسي الذي سمعنا بعضه:(ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، وفي بعض الروايات:(فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) .
والمعنى: أن الله تعالى يحفظه ويحوطه ويحرسه، فتكون حركاته في إرادة الله وفي طاعة الله، وما ذاك إلا أن قلبه امتلأ بعظمة الله وامتلأ بالإيمان به، وامتلأ بحب الخير، وامتلأ بالأعمال الخيرية الصالحة والميل إليها، ولما امتلأ القلب ظهر آثار ذلك على السمع وعلى البصر وعلى اليد وعلى الرجل، فصار نظره كله بالله، وسمعه كله لله، ومشيه وحركاته كلها لله، فصار بالله ومن الله وفي الله، فهذا هو الذي لا يمكن أنه يقدم على معصية مع ما يقوم به من هذه الحال.
فالعبد الذي يكون بهذه المثابة لا شك -أنه إن شاء الله- لا يقدم على معصية، وإنما يؤتى من نقص في ذلك، يعني من نقص في استحضاره بقلبه لهذه الأشياء، فإن العوائق التي تعوقه عن هذه الاستحضارات كثيرة، فالشهوات من زينة الحياة الدنيا ومتاعها، والشغل بها كثيراً، والانهماك في المحرمات؛ كل ذلك يجلب إلى قلبه شيئاً من الغفلة، فيوجب له بذلك صدوداً عن الخير، وإقبالاً على الشرور والفساد، نعوذ بالله من الخذلان.