[ترجيح الشارح أن الخلاف بين أهل السنة وأبي حنيفة في تعريف الإيمان خلاف لفظي]
قال الشارح رحمه الله: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية.
أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله.
وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.
والخلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد.
والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً.
والاختلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بـ (القول) : التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل.
لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع] .
الشارح رحمه الله حنفي المذهب، ومعلوم أنه أراد بتأليف هذا الكتاب تقريب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وذلك لأنه ولو كان حنفياً في الفروع فإنه سلفي في العقيدة، وقد تأثر بشيخه ابن كثير رحمه الله، ابن كثير كان شافعي المذهب، وقد تأثر ابن كثير بـ ابن تيمية وهو حنبلي في باب العقيدة، فكان شافعياً في الفروع، ولكنه في العقيدة على مذهب أهل السنة الذي تلقاه عن شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.
فأراد هذا الشارح رحمه الله بشرحه أن يقرب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وشرح هذه العقيدة على مذهب أهل السنة، وبين أن الطحاوي أراد بها قول أهل السنة، وأراد بها ما عليه سلف الأمة، حتى يرد على الذين تمذهبوا بمذاهب باطلة بعد السلف، فأنكروا الصفات، وأنكروا العلو، وأنكروا الرؤية لله حقيقة، وأنكروا الكلام لله حقيقة، وما أشبه ذلك، فتقدم أنه شرح هذه الأشياء وبين أن القرآن حروفاً ومعاني كلام الله، رداً على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وكذلك في مسألة الرؤية: أن الرؤية تكون حقيقة بالبصر، وأنها ليست كما يقول الأشاعرة: مكاشفات ورؤية قلبية، وكذلك بقية المسائل، وكثير من الحنفية يقولون بأقوال الأشاعرة.
وبقيت هذه المسألة، وهي: مسألة الإيمان، فقد عجز عن الجمع بين مذهب أهل السنة ومذهب الحنفية في باب الإيمان؛ وذلك لصراحة كلام الطحاوي في أن الأعمال ليست من الإيمان، حيث إن الطحاوي جعل الإيمان فقط هو التصديق والقول، وذلك صريح لا يحتمل أن يؤول، فلم يجد الشارح بداً من أن يجمع بينهما بأن الخلاف لفظي، حيث يقول: إذا كنا متفقين على أن من عمل السيئات لا يخرج من الإيمان، فإنا لا نجعل فعلها مدخلاً في الإيمان أو زيادة في الإيمان، ولا نجعل تركها مخرجاً من الإيمان، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) .
ومذهب أهل السنة في هذا الحديث أن نقول: ليس هو مؤمن كامل الإيمان، بل هو ناقص الإيمان، ونقول: هو عاص معه أصل الإيمان، ومعه بعض الأعمال المنافية له، فنسميه فاسقاً، ونسميه مؤمناً ناقص الإيمان، ولا نسميه كامل الإيمان، والحديث جاء على هذا، فما دام أننا اتفقنا على أن الأعمال من الإيمان فلماذا نجعل تركها نقصاً في الإيمان لا مخرجاً من الإيمان بالكلية؟ إذاً: لا دلالة في هذا الحديث على أن الأعمال ليست من الإيمان، بل الأعمال من الإيمان، والخلاف ليس لفظياً كما يقوله الشارح، بل الخلاف معنوي، لا شك أنه يترتب عليه معان كثيرة، يترتب عليه أن الفاسق ولو عمل ما عمل يسمى مؤمناً كامل الإيمان؛ وذلك لقول الطحاوي عفا الله عنه: إن أهله في أصله سواء.
يعني: التفاوت بينهم إنما هو بالخشية والتقاة، وأما أصل الإيمان فإنهم يتساوون فيه، وعندهم أن إيمان جبرائيل وإسرافيل والملائكة مثل إيمان آحاد الناس، فالناس كلهم على حد سواء في الإيمان، لا تفاوت بينهم، وهذا خطأ، بل الناس متفاوتون في الإيمان.
والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وتأتينا أدلة واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص.
وبكل حال: فالأصل أن الإيمان الذي ذكرنا تدخل فيه الأعمال، فهي من الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها شعباً، فالشعب: هي القطع التي يتكون منها الشيء، فقوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) أي: أن الإيمان يتكون من هذه الشعب، فيقال: الصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة والصدقات شعبة من الإيمان، والأذكار شعبة من الإيمان، وحسن الجوار شعبة من الإيمان، والصدق شعبة من الإيمان، وأشباه ذلك، ويقال -أيضاً-: إن للكفر شعباً كما أن للإيمان شعباً، والإيمان يتفاوت، وأهله متفاوتون، فالصحابة إيمانهم الذي في قلوبهم، وكذلك نتيجته التي هي أعمالهم التي عملوها؛ لا شك أنها أقوى وأكبر من إيمان من بعدهم، ومن إيمان الآخرين، فالله تعالى قد أخبر بأن هناك من يشمله اسم المؤمن ولو كان معه نقص، وذلك في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢] يصدق عليه أنه يحرر رقبة من أهل الإيمان ولو كان عاصياً، ولو كان مذنباً، ولكن الإيمان الذي مدح الله أهله ووصفهم بالنجاة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:١] من هم؟ لابد أن يكون لهم صفات معينة، فلو قال: (قد أفلح المؤمنون) واقتصر على هذه الآية لكان المؤمنون هم المصدقون، ولكن الله بين صفاتهم، فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:٢-٣] إذاً هذا من الإيمان، {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:٤-٥] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:٨-٩] هذه كلها من الإيمان، وجعلها الله تعالى فروعاً، فإذا كانت هذه صفات المؤمنين فإذاً هذه من الإيمان.
وكذلك -أيضاً- يقول الله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:٥٨] فالإيمان الذي يكون معه أن أهله يسجدون ويسبحون، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً؛ هو الإيمان الصادق، وهذه كلها صفات المؤمن، فلا يكون المؤمن صادقاً إلا إذا اجتمعت فيه هذه الخصال ونحوها، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد فيه من هذه الأصول، لابد فيه من الأصل الصحيح الصادق الذي هو العمل، والدافع إلى العمل الذي هو التصديق القوي الذي يظهر بالعمل، ويظهر بالكلام، فإذا اجتمع العمل بالأركان والنطق والعقيدة الصادقة كمل الإيمان، وإلا فالإيمان ناقص.