[قصص أخرى عن أهل الكلام]
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يَرِد عن الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لَعَمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون.
فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به -أو كما قال-؟ فقال: نعم.
فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.
ولـ ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرَت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر فلَحَى الله الأُلى زعموا أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجِّح ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء.
ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -رحمه الله-: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولَأَن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام.
انتهى وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) خرَّجه مسلم.
توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه؛ إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبيته هذه الأرواح العظيمة المُوْكَلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] .
ذكر أولاً بقية كلام هؤلاء الذين عُرف عنهم الحيرة، منهم الشهرستاني صاحب الملل والنحل.
ومنهم: الجويني صاحب (الإرشاد) ، ويسمى (إمام الحرمين) له أيضاً مؤلفات، وكلامه في (الإرشاد) دليل على أنه متوغل في علم الكلام، وعرفنا ما تكلم به هنا.
ومنهم هذا العالم المشهور الذي يسمى: (الخسروشاهي) الذي يحلف -كما ذكر الشارح- أنه لا يدري ما يعتقد، ويغبط العامة بعقيدتهم.
هذه الكلمات المنقولة عنهم وكذلك عن غيرهم لا شك أنها دليل واضح على أن هذا النوع من علم الكلام نهايته الحيرة وأنهم لا يثبتون على طريقة، بل حجج هؤلاء ترد حجج هؤلاء.
ذكر أحدهم -كما سبق- أنه يبيت الليلة من أولها إلى آخرها وهو يقابل حجة هؤلاء بحجة هؤلاء، ويصبح وما ترجح عنده منها واحدة، أي فائدة من العلم بها؟! وأي فائدة من معرفتها؟! إذاً أسلم الطرق البُعد عن هذه الطريقة التي هي علم الكلام، وهجر أهله والبُعد عنهم، بل عقوبتهم بما قال الشافعي رحمه الله.