للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نداء الله لموسى ودلالاته]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:٣٠] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها؛ فإن الله تعالى قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن} [القصص:٣٠] ، والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: {فِي الْبُقْعَة الْمُبَارَكَة مِنَ الشَّجَرَة} [القصص:٣٠] أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة.

كما يقول: سمعت كلام زيد من البيت، فيكون (من البيت) لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠] ، وهل قال: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله، وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى] .

مما استدلوا به -وهي شبهة داحضة- أن استدلوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} [القصص:٣٠] قالوا: إن موسى سمع الصوت من الشجرة، فالشجرة هي التي تكلمت، أو خلق الله الكلام في الشجرة.

فلذلك قالوا: إن كلام الله مخلوق، وهذا قول بعيد، ويقول المؤلف: إنهم عموا عما بعد الآية وعما قبلها، فإن قوله تعالى: (نودي) النداء يكون بصوت مسموع، وهذا مما استدلوا به على أن الله تعالى متكلم؛ حيث أثبت لنفسه النداء في عدة آيات، قال تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:١٠] وقال: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:١٦] ، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:٥٢] وقال: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:٢٢] ، وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:٦٢] ونحو ذلك، فالنداء من الله بكلام مسموع، فإذاً: قوله (نودي) ، يعني ناده ربه بكلام سمعه.

وأما قوله تعالى: (في البقعة المباركة) يعني أنه نودي وهو في البقة المباركة التي ذكرها بقوله: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:١٢] ، هذه البقعة ذكر الله بها البركة فقال تعالى: {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:١٢] ؟ ثم قال: (من الشجرة) سمع الصوت من جهة الشجرة لا أن الشجرة هي التي نطقت، وإنما سمع الصوت من جهتها، ورأى تلك النار التي قال عنها: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه:١٠] أي: رأى ضوءاً يشتعل عند تلك الشجرة فظن أنه نار، فذهب ليأتي بوقود لأهله لعلهم يصطلون، وكان ذلك في شدة برد، فقال: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:٧] ، فلما جاء إلى الشجرة سمع هذا النداء، وفي ذلك النداء قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى * وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٤-١٧] ، كل هذا تكلم الله به وسمعه، ولأجل ذلك يسمى موسى كليم الله، بمعنى أن الله كلمه وأسمعه كلامه، وليست هي الشجرة التي نطقت بذلك، وإنما سمع الصوت من جهة الشجرة، أي: جاء من تلك الجهة.

كما يقول القائل: كلمني زيد من الدار، بمعنى أن الصوت خرج من الدار، لا أن الدار هي التي نطقت.

فإذاً هذا دليل بعيد أن يتعلق به، وهذا من جملة أدلتهم الباطلة.