للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبق القدر لا ينافي جواز الدعاء بطول العمر ونحو ذلك]

واختلف في جواز الدعاء بطول العمر، كأن يقال: اللهم متعني بأولادي أو بأخي أو ما أشبه ذلك.

وقد مر بنا الحديث الذي فيه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة في قولها: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية.

فأنكر عليها وقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأعمار محدودة، وأرزاق مقسومة) وأخبرها أنها لو سألت الله تعالى أن يعيذها من عذاب النار وعذاب القبر لكان خيراً.

وذكر الشارح هنا أن الإمام أحمد كان يكره أن يدعى له بطول العمر، وقد اختلف في جواز ذلك، ولكن الصحيح أن ذلك جائز إن شاء الله، كما يدعى للإنسان بالجنة وبالمغفرة وبالرزق وبالحياة الطيبة وما أشبه ذلك، وكما يدعو الإنسان أيضاً لنفسه بهذه الأشياء، وقد سبق أن بينا أدلة ذلك، وأن هذا لا ينافي كونها مقدرة؛ فإن القدر عام لكل شيء حتى للجنة والنار، والله تعالى قد علم أهل الجنة ومع ذلك هم مأمورون بسؤالها.

فلا يقال: لا تسأل الجنة لأنك إن كنت مكتوباً من أهلها فإنك ستصير من أهلها، بل يقال: سل الله الجنة، وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تسألونه الجنة وتستعيذون به من النار) ، وأقر ذلك الأعرابي الذي قال: (إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار.

فقال: حولها ندندن) يعني: أننا ندندن ونسأل ونكثر من السؤال في طلب الجنة والنجاة من النار.

فإذا كان قد كتب على الإنسان مقعده من الجنة أو مقعده من النار، ولا ينافي ذلك أن يسأل الله الجنة؛ فكذلك قد كتب له رزقه الذي سوف يأتيه ولا ينافي ذلك أنه يطلبه ويعمل ويتكسب، وقد كتب له أيضاً ما سوف يكتسبه أو يحويه، ومع ذلك فهو مأمور بأن يسأل الله رزقاً واسعاً حلالاً، أو ما أشبه ذلك، ومأمور أيضاً بأن يسأل ربه حياة سعيدة وحياة طيبة ولو كان ذلك مكتوباً.

والحاصل أن كتابة الأعمار، وكتابة الأرزاق والآجال، وكتابة السعادة والشقاوة، وكتابة كل شيء يأتي الإنسان؛ لا تنافي أن يسأل ولا تنافي أن يعمل.

وهكذا أيضاً هو مأمور بالسؤال ومأمور بالعمل، ولكن مع كونه مكتوباً فقد يكون معلقاً على سبب، كأن يقول الله أو يكتب الله: إننا سنرزقه بسبب سؤاله، أو: نجعله من أهل الجنة بسبب كثرة إلحاحه بالدعاء، أو: نوسع عليه رزقه بسبب كثرة طلبه؛ فيكون هذا الدعاء سبباً أزلياً، فيقال: قد كتب الله أنه يسأل ويكون سؤاله من الأسباب التي يرزق بسببها ويسعد بسببها ويكتسب بسببها وما أشبه ذلك.

وهذا كما يفعل في الأشياء الحسية، فإن الإنسان مأمور بأن يأكل وبأن يشرب وبأن يتزوج وبأن يكتسي وبأن يبني سكناً وما أشبه ذلك، وإن كان ذلك أيضاً مكتوباً له.

فعلى كل حال كتابة الأشياء في الأزل وكتابة الأعمار في هذه الآية وغيرها لا تنافي أن يسأل الإنسان ربه وأن يدعوه، فالله تعالى قد أمر بدعائه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠] وغير ذلك من الآيات، وكما أمر بالعمل فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:١٠٥] .