للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفطرة السليمة تدل على علو الله]

قصة أبي المعالي الجويني وأبي جعفر الهمذاني مشهورة، والجويني من علماء الشافعية، ولكنه من الأشاعرة الذين ينكرون صفة العلو، وإن كانوا يقرون بكثير من الصفات، لكن صفة العلو التزموا إنكارها، وحجته في إنكارها أن الله كان قبل أن يخلق العرش، وهو الآن على ما كان قبل خلق العرش، وهذه الحجة وهمية ليست بلازمة ولا مقنعة، صحيح أن الله تعالى كان قبل كل شيء، وأنه هو الذي خلق العرش وما دون العرش، وأنه مستغن عن العرش وما دونه، ولا يلزم من استوائه على العرش أنه محتاج إلى العرش أو غيره، فهو لما تكلم بهذا في هذا الجمع الكبير اعترض عليه الهمذاني بهذا الاعتراض، وقال: دعنا من هذا، نحن مضطرون إلى أن نرفع رغباتنا إلى السماء عند الدعاء، إذا دعا أحدنا ربه وجد من قلبه ميلاً إلى العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا فوق ولا تحت، هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا كيف ندفعها؟! ولما تكلم بهذا حير الجويني، ولم يجد بداً من أن يستسلم وقال: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني! فهذه فطرة الله التي فطر الخلق عليها، ولا يستطيعون إنكارها، لكن هؤلاء الذين أنكروها بعد أن كانوا مفطورين عليها إنما أنكروها عناداً، وإلا فلا شك أن قلوبهم تميل إلى أن الله فوق، ولكنهم لما تلقوا هذه العقيدة عن أكابرهم ومشايخهم لم يجدوا بداً من الاستسلام لها وعدم الاعتراض عليها، فهذا هو السبب في كونهم ينكرون ما هو ظاهر وما هو مشهور.

وقولهم: لو كانت فطرية لاستوى الناس فيها وفي الإقرار بها، فإن الناس كلهم ذوو عقول.

الجواب

أنه قد أقر بها من بقي على فطرته، وأما من تغيرت فطرته فلا يلتفت إلى إنكاره، فهؤلاء المنكرون تغيرت فطرتهم؛ بسبب تأثير البيئة أو المجتمع أو التربية السيئة.

فصار لهم حالتان: إما أنهم مقرون بقلوبهم، ومنكرون بألسنتهم ما في قلوبهم من الميل إلى الفوقية، وإما أنهم تغيرت فطرتهم فلم يبق في قلوبهم ذلك الميل الذي كانوا عليه عندما ولدوا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الفطرة تتغير بالمجتمعات في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) يعني: أنه مولود على الفطرة التي هي معرفة ربه، ومعرفة خالقه، والإقرار بفوقيته، ولكن أبواه ومجتمعه ومعلموه ومدربوه ومدرسوه هم الذين يغيرون تلك الفطرة إلى ما يعتقدونه، حتى يصير يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً أو مبتدعاً جهمياً أو غيره، فالله تعالى فطر الناس على هذه الفطرة، ولكن هؤلاء أنكروا بزعمهم، وادعوا أن عقولهم لا تدل على هذه الفطرة.

والجواب: أن يقال: قد أقر بهذه الفطرة الخلق الكثير الذين بقوا على عقيدتهم، وأنتم على ما أنتم عليه من إنكارها، فنقابل إقرار هؤلاء وإقرار هؤلاء فننظر أيهما أرجح، فنجد أن هؤلاء المقرين في جانبهم النقل وهو الكتاب والسنة، فيجتمع العقل والنقل فيكون أرجح من الذين ليس معهم إلا العقل.

جواب آخر وهو: أن عقول هؤلاء دائماً تتغير، وتختلف اختلافاً كثيراً، فتجد اثنين يتعلمان على معلم واحد ثم يختلفان، فهذا يقول: أنكر عقلي كذا.

وهذا يقول: لم ينكره عقلي.

ويبقى الواحد منهم برهة من الزمان قد تصل إلى أربعين سنة أو خمسين سنة وهو يقر ويعترف بهذا الأمر، ثم تغلب عليه بعض الأمور فتصرفه وينقلب ويقول: أنكره قلبي! بقيت أربعين أو خمسين سنة وقلبك مقر به، ثم بعد ذلك أنكره! قد يكون بالعكس أيضاً: يتربى عشرين أو ثلاثين سنة وهو منكر له؛ تقليداً لمجتمعه ولمدرسيه ومعلميه، ثم بعد ذلك يمن الله عليه ويرجع إلى العقل السليم فيوافق عليه، فإذاً: اختلاف عقولهم دليل على عدم اتزانها.

وكذلك تفاوتهم وكون هذا يقر وهذا ينكر، أو هذا يقر زماناً ثم ينكر؛ دليل على أنها ليست معياراً، فالمعيار هو الشرع، وكذلك العقول السليمة.