[التوسل بالأعمال الصالحة توسل مشروع]
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين آوَوا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.
فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال؛ لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر؛ فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسَل تعطَ، واشفع تشفَّع) فيُحَد له حداً، فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:١٥٤] ، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:١٢٨] ، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:٥٤] .
فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء) .
وفي الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني! فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء) .
فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء) فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء] .
الكلام الأول يتعلق بقول الإنسان: أسألك بكذا، فإذا كان الذي سألت به عملاً صالحاً فهو وسيلة والله تعالى قد أمر بها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:٣٥] أي: اجعلوا بينكم وبينه وسيلة، والوسيلة ما يوصل إليه، وقد فُسِّرت بأنها الأعمال الصالحة يتوصل بها العبد إلى ثواب ربه وإلى جزيل وعظيم أجره.
فإذا قلت مثلاً: أسألك يا رب بحق أعمالي أو بحق إيماني أو بحق تصديقي، فستجعل ذلك وسيلة تقربك إلى رضا الله، فهذا جائز.
وإذا قلت مثلاً: أسألك بإيماني بنبيك، أو: بمحبتي لك، أو: بمحبتي لعبادك الصالحين، فأنت تتوسل بأعمالك الصالحة، فهذا توسل بأعمال صالحة عملتها تكون سبباً في فوزك وسعادتك.
أما إذا توسلت بمخلوق بأن قلت: أسألك بحق عبدك، أو: بحق رسولك، أو: بحق آبائي أو أجدادي أو أسلافي، فهذا توسل بمخلوق.
فالتوسل الذي أمر الله به في قوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:٣٥] هو السؤال بالأعمال الصالحة.
ومن هذا قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة فسدت باب الغار عليهم، فعرفوا أنه لا ينجيهم إلا التوسل بأعمالهم الصالحة ودعاء الله فتوسلوا.
توسل أحدهم بكونه براً بوالديه، وقال بعد ذلك: (اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك -يعني: مخلصاً لك- فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج) .
وتوسل الثاني بعفافه، بكونه تمكن من فعل الحرام ولكنه تركه خوفاً من الله، وذهب ما دفعه من المال، وقال بعد ذلك: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك أو ابتغاء مرضاتك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً) .
وتوسل الثالث بأمانته، وبكونه مؤتَمناً على مال غيره بحيث لم يأخذ من أجرة ذلك الأجير شيئاً رغم أنه تصرف فيها، فدفعها إلى أهلها أو إلى صاحبها، وذلك دليل الأمانة، وقال: (إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون) .
ففي هذا أجاب الله دعاءهم لما توسلوا، فهل قالوا: نسألك بحق أوليائك؟! وهل قالوا: نسألك بحق عبدك فلان؟! وبينهم عباد صالحون ورسل وأنبياء كموسى وعيسى وأيوب وهارون، فما سألوا الله إلَّا بحق أعمالهم.
فيجوز أن تسأل الله بإيمانك وبتصديقك وما أشبه ذلك، هذا هو التوسل المطلوب أو التوسل المشروع، وأما التوسل بحق مخلوق أو بجاه مخلوق -ولو كان نبياً أو ولياً- فهو ممنوع، وهو من وسائل الشرك.