[هل يحب العبد الشر ويرضى به من جهة أنه مراد لله واقع بمشيئته]
قال المؤلف: [وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد: فهو أيضاً ممكن بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه؛ فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان.
وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته.
وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.
فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟ قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات! وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل.
لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من:(فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال.
فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه] .