[نفوذ مشيئة الله تعالى وتبعية مشيئة العبد لها]
قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن) .
قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:٣٠] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٩] ، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:١١١] ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:١١٢] .
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:٩٩] ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] ، وقال تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:٣٤] ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٣٩] ، إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا] .
هذا الكلام على المشيئة والإرادة، والإرادة هنا هي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى (المشيئة) ، يعتقد المسلمون أن مشيئة الله عامة لكل ما في الوجود، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، سواء من الطاعات والأعمال والمعاصي ونحوها، أو من المخلوقات والموجودات والحوادث ونحوها، فكلها حصلت بمشيئته وبإرادته الكونية، والجملة التي ذكرها الطحاوي وردت في حديث في جملة الأدعية: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، فقوله: (ما شاء الله كان) أي: ما أراده كوناً وقدراً فإنه سيوجد وسوف يحدث لأن الله أراده، وكل شيء أراده الله لا بد أن يكونه، وكذلك الله تعالى هو الذي يخلقه، وخلقه لهذه الأشياء أن يقول: (كن) فتكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] ، فمما يعتقده أهل السنة أن مشيئة الله تعالى عامة لكل ما في الوجود، سواء المخلوقات أو غيرها.
وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض أصحابه عن العزل -والعزل يكون في الجماع مخافة أن تحمل المرأة، فإذا وطئها أنزل خارج الفرج حتى لا تحبل- فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا؛ فإنه ما من نسمة كائنة إلا الله خالقها) ، وفي بعض الأحاديث أن رجلاً استأذنه في العزل فقال: (لا تقدر أن ترده، لو أراد الله أن يخلقه لم تقدر أن ترده) ، يعني: أن ترد ما قدر الله أنه سيوجد، ثم جاءه ذلك الرجل بعد أيام وأخبره بأن الأمة التي يعزل عنها قد حملت مع كونه يعزل عنها، فذكر أن من أراد الله أن يخلق له مخلوقاً أو ولداً فلا بد أن يكون.
فالله تعالى قدر ما يكون، وإن كان العزل سبباً من أسباب عدم الحمل فهو مكتوب عند الله أن هذا سيستعمل كذا وكذا من موانع الحمل ويحصل له كذا وكذا من الأولاد، وهذا سيقل أولاده وهذا سيكثرون، فكل ذلك مكتوب مقدر.
وهكذا أيضاً بالنسبة للدواب لا يستنكر مثلاً كثرتها أو توالدها أو ما أشبه ذلك، فيقال: الله الذي قدرها وقدر عددها وخلقها، وعلم بوقت خلقها وبعددها وبأعمارها وبأعمالها وما أشبه ذلك.
وهكذا أيضاً النبات ونحو ذلك، قدر الله عز وجل ما يكون منه وما يحصل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك الآيات التي ساقها الشارح، والآيات كثيرة فيما يتعلق بمشيئة الله تعالى وبقدرته وبإرادته، وببيان أن إرادة الإنسان مربوطة بإرادة الله، كما في الآيات الأول وهي قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٨-٢٩] ، فقد يستدل بأول الآية المعتزلة في أن الإنسان حر في مشيئته، وأن له أن يشاء، ولكن تمام الآية رد لهذا الفهم ودليل لربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله، ولهذا قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:٢٩] أي: لا تستطيعون شيئاً وتنفذونه ولو شئتموه وأردتموه إلا إذا كان الله قد شاءه وأراده وقدره وحدد وقته.
فإذا لم يشأ الإنسان شيئاً فلا يحصل، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في أبيات مشهورة: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وهو معنى هذا الحديث، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لا يكون وإن شاء الناس، ومعنى قوله في الحديث: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) .