[مجمل ذكر المذاهب الموافقة والمخالفة في باب القدر]
من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، ويدخل في القدر الإيمان بعموم قدرة الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير.
ويدخل في قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يعذب من يشاء، وقادر على أن يرحم من يشاء، وقادر على أن ينتقم من الظلمة ويهلكهم في أسرع وقت، وقادر على أن يرحم عباده، وأن يبسط لهم الرزق، وقادر على أن يعمم فضله على القاصي والداني، وقادر على أن يحرم هذا ويهلكه، وقادر على أن يغير هذا الكون، وأن يبدل هذه المخلوقات؛ إذ لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء.
كذلك أيضاً لا يكون في الوجود شيء إلا بإرادته وبعد قدرته وبعد أن يشاء ذلك ويقدره، فلا يكون فسوق ولا طاعة ولا معصية ولا هداية ولا ضلال ولا كفر ولا إيمان ولا طاعة ولا عصيان إلا بعد أن يشاء الله ذلك، كما قال عز وجل: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد:٣١] ، وقال: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ} [الشورى:٣٣] ، وقال: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:٤] ولكن اقتضت حكمته أن يضل أناساً بعدله، فضلوا سواء السبيل، ومنَّ على آخرين بفضله، فاهتدوا إلى سواء الطريق، وأولئك داخلون تحت قدرته، وهؤلاء كذلك؛ لأن الجميع عبيده وتحت تصرفه، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، لا معز لمن أذل، ولا مذل لمن أعز، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، بيده الأمر، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
ولا شك أيضاً أنه يدخل في ذلك حركات العباد وأفعالهم؛ فهو الذي أعطاهم القوة، وهو الذي بعث هممهم، ولو شاء لما عصوه ولما أطاعوه؛ إذ كل ذلك بمشيئته وقدرته، فإن أطاعوه فبفضله؛ فهو الذي منَّ عليهم حتى أطاعوه، وإن عصوه فبعدله إذ فهو الذي خذلهم حتى عصوه.
وذكر المؤلف أن في هذا خلافاً بين ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: هم الجبرية الذين غلوا في نفي قدرة العبد، وجعلوا حركته كحركة الأشجار، ولم يجعلوا له أي اختيار، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] وقالوا: العبد ليس له أي فعل.
ورد عليهم: بأن الله تعالى أثبت الرمي لنبيه، فدل على أن منه الرمي وعلى الله الإصابة.
والطائفة الثانية: هم القدرية الذين أنكروا قدرة الله على أفعال العباد، وجعلوا العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وليس لله قدرة على هداية هذا، ولا إضلال هذا، ولا خذلان هذا، ولا توفيق هذا، فجعلوا العبد أقدر من الله، وجعلوا قدرته تفوق قدرة الخالق! تعالى الله عن قولهم، فجعلوا مع الخالق من يخلق، وهؤلاء يقال لهم: مجوس هذه الأمة.
الطائفة الثالثة: أهل السنة الذين توسطوا، فجعلوا للعبد قدرة وإرادة، ولكنها مسبوقة بقدرة الله وإرادته، ومغلوبة بها، فإذا أراد الله هداية عبد وفقه وأطلق جوارحه واختار الفعل الطيب، فأصبح مطيعاً مؤمناً.
فتنسب إلى العبد الطاعات والمعاصي؛ لأن له اختياراً؛ ولأن له فعلاً؛ ولأن له قدرة زاول بها الأعمال، وتنسب إلى الله لأنه هو الذي أقدره عليها، وهو الذي رزقه القوة، ورزقه التوفيق، وأقبل بقلبه.
وكذلك المعصية تنسب إلى الله؛ لأنه هو الذي قدرها ولو شاء لما حصلت، وتنسب إلى العبد لأنه هو الذي باشرها وفعلها.
فجميع الحركات من الله تعالى إيجاداً وتكويناً، ومن العبد فعلاً ومباشرة، فعلى هذا لا يكون هناك من يشترك في خلق الفعل وإيجاده، بل الله هو الذي مكن العبد حتى فعله، وأظهره، والعبد هو الذي باشره، فتنسب إليه المباشرة، فلا يكون هناك اختلاف، ولا يكون هناك إجبار ولا إنكار لقدرة الله تعالى، هذا هو القول الوسط.