للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)]

تكلم الشارح على قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:١١] والصحيح أن هاتين الموتتين والحياتين في الدنيا وفي الآخرة، الموتة الأولى هي الموت في الأرحام وفي الأصلاب، فإنه في حالة كونه في الرحم شبه ميت، ليس به حركة الحي حتى ينفخ فيه الروح بعد الشهر الرابع.

الموتة الثانية خروجه من هذه الدنيا، فهاتان موتتان.

والحياة الأولى خروجه إلى هذه الدنيا من الرحم فإنها حياة مشاهدة، والحياة الثانية حياته بعد النفخ في الصور يوم القيامة الحياة الباقية.

فهاتان الموتتان موتة في الرحم وموتة في الدنيا، والحياتان حياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وهي المفصلة في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة:٢٨] يعني: في الأرحام، {فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:٢٨] يعني: في الدنيا، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:٢٨] يعني: في البرزخ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:٢٨] أي: للآخرة.

وقد نصب الله الأدلة على الأمور الغيبية والأمور الأخروية، وأمر العباد بأن يتفكروا وينظروا فيما بين أيديهم وفيما خلفهم، ولا شك أن من نظر في ذلك اعتبر وتذكر واتعظ، إذا نظر -مثلاً- إلى خلق الإنسان، ومبدأ أمره، عرف أن الذي خلقه قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، نظر إلى الأفلاك العلوية والسفلية فأخذ منها آية دل الله عليها بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧] ، خلق السماوات مع علوها ومع عظمها وخلق الأرض مع اتساعها أكبر من خلق الناس.

والآيات التي أمر الله عباده أن يتعظوا بها وينظروا فيها كثيرة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:٢٠] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم:٢١] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:٢٢] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:٢٣] ، {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} [الرعد:١٢] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:٢٥] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:٤٦] ولا شك أن هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ؛ فلأجل ذلك أصبح اليوم الآخر يقيناً عند أهل الإيمان؛ لأنها قامت عليه البراهين بعدما كان المشركون ينكرونه ويقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الصافات:١٦-١٧] يستنكرون ذلك، فأقام الله عليهم الحجة، وبين لهم الأدلة.

ومعلوم أن الإنسان يتكون من جسد وروح، فبعد الموت تخرج هذه الروح من جسده، ويبقى الجسد ليس به حركة، فيفنى الجسد ويكون تراباً، ولكن قدرة الله أعلى من كل شيء، فهو قادر سبحانه على أن يوصل إليه الألم أو النعيم ولو كان تراباً أو رماداً، الله قادر على كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

أما روحه التي كانت تعمر جسده فقد مر بنا أن الروح لا تعدم، وأنها باقية، وأنها في هذا البرزخ بين الدنيا والآخرة إما في نعيم وإما في عذاب، وإن كنا بعقولنا لا ندرك ماهيتها، ولا ندري أين مستقرها، بل نتحقق بأن الروح إذا خرجت من البدن لا تنعدم كما ينعدم البدن، بل تبقى، والدليل على بقائها الأحاديث التي فيها أنها تقبض، وأنه يعرج بها، وأنها ترى من يقبضها، ونحو ذلك، فهي إذاً: باقية في هذه المدة بين الدنيا والآخرة، ويوم القيامة يأمر الله الأرض فتجمع ما فيها من رفات الأموات، وتتجمع عظامهم حتى تتكامل، ويكسوها الله لحماً، ثم بعد أن يعيدها يرسل إليها أرواحها، وقد وقع مثل ذلك في الدنيا، فحكى الله قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد إعادتها وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:٢٥٩] كأنه استبعد أن تحيا وقد فنيت، فأراه الله الآية في نفسه، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان معه حمار، وكان معه سلة طعام وفاكهة، فلما بعثه ونفخ فيه الروح بعد مائة سنة، أراه الله كيف يحيي الموتى، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، فقال الله: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:٢٥٩] أي: لم يتغير، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:٢٥٩] ، وكان حماره قد فني وأصبح تراباً، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة:٢٥٩] يقولون: إنه أخذ ينظر إلى عظام الحمار كيف تجتمع ثم يلتئم بعضها ببعض، أولاً التأمت العظام، ثم اكتست لحماً، ثم نبت عليها جلدها، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار ونهق كما ينهق إذا كان حياً! فأراه الله الآية في نفسه، وفيما كان معه، وذلك بلا شك آية وعبرة تدل أن الله قادر على أن يحيي الموتى {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:٤٠] ، فإذا أيقن الإنسان بذلك فإن يقينه يحمله على أن يستعد لما بعد الموت.