للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الرجاء ومتعلقاته]

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:٢١٨] .

فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، وشرعه وقدرته وثوابه وكرامته.

ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام وأمثال ذلك.

فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً، استلزم رجاؤه أموراً: أحدها: محبة ما يرجوه.

الثاني: خوفه من فواته.

الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.

وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر.

فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه.

وفي معجم الطبراني: (الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)) ، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو: مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو: ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه) .

وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون) , ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره] .

سمعنا أن الرجاء هو محبة الشيء وطلبه، وترك أضداده، أو ترك ما يعوق عنه.

أما متعلق الرجاء، فإنه قد يتعلق بالله تعالى، وقد يتعلق بثوابه، وقد يتعلق ببعض خلقه، فيقال مثلاً: أنت ترجو ربك.

ويقال: هذا يرجو رحمة الله.

ويقال: هذا يرجو الجنة، رجاء الشيء محبته والأمل في أن يحصل له.

سمعنا أنه لابد لمن رجا أن يعمل، وضرب الشارح لذلك أمثلة، قال: لو كان إنسان له أرض وأهملها، وقال: أنا أرجو أن يكون لها ثمرة، وأن يكون لها بذرة، مثل الذي حرث أرضه أو غرسها أو بنى فيها.

فهل يكون هذا محقاً؟ يقول الشارح: لعده الناس سفيهاً، كيف ترجو ثمرتها وقد أهملتها؟! إذا كنت ترجو منها ثمراً، إذا كنت ترجو منها غلة فلابد أن تفعل السبب الذي تحصل منه الغلة، وهو الحرث والسقي والغرس والإصلاح أو البناء والحفر وما أشبه ذلك.

والأمثلة الأخرى أيضاً واضحة، يقول: كيف يرجو الإنسان الولد وهو لم يتزوج؟! أو نقول في الأشياء المحسوسة: كيف يرجو الشبع وهو لم يتناول طعاماً، أو الري وهو لم يشرب شراباً يدفع به الظمأ، أو الرزق وهو لم يطلبه ويفعل أسبابه؟! فهكذا الذي يرجو السعادة لابد أن يفعل أسبابها، والذي يرجو الجنة يبذل ثمنها، والذي يرجو رحمة الله تعالى ويرجو ثوابه يعمل سبباً يحصل به على ما رجاه، هذا ما يتعلق بالرجاء.