للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفي القدرة والاستطاعة عن فعل الخير أو ترك الشر عند أهل البدع]

بخلاف هؤلاء المبتدعة فإنهم إذا رأوا إنساناً ما قرأ، قالوا: هذا لا يستطيع أن يقرأ، ليس له أن يقرأ، إذا رأوا إنساناً لم يحترف حرفة كذا وكذا قالوا: هذا لا يستطيع أن يحرث الأرض، ولا أن يغرس الغرس، ولا أن يرعى الإبل أو يحلبها مثلاً، مع أنه يستطيع وبإمكانه فعله، هذا بالنسبة للأفعال المحسوسة.

ويقال كذلك أيضاً في التكاليف سواء كانت طاعات أو معاصي، في الطاعات يقولون لمن لم يصم: هذا لا يستطيع الصوم، لو كان يستطيع الصوم لصام، مع أنه قادر وقوي، كذلك يقولون: لا يستطيع أن يطعم الطعام، أو يخرج من الطعام ما يخرج مثله، مع أنه ذو مال وعنده ثروة، لكن لما رأوه لم يخرج قالوا: لو كان يستطيع أن يخرج لأخرج، لو كان يستطيع أن يتصدق لتصدق، كأنهم يقولون: إنه لا يستطيع لكون الله حال بينه وبين الصدقة.

الله تعالى أمره بالصدقة الواجبة في الزكاة والكفارة والنفقة على الأهل والولد ونحو ذلك، ومع ذلك بخل بها، فهو قادر، لو لم يكن قادراً لما أمره الله بذلك، ولو لم يكن قادراً على الصوم لما أمره.

فالله أمر الناس بالصوم، فمنهم من صام ومنهم من لم يصم، وأمر الناس كلهم بالصلاة، فمنهم من صلى ومنهم من لم يصل، ولا يقال لمن لم يصل: هذا لا يستطيع، نقول: بل هو مستطيع، ولكن حيل بينه وبينها، فهو محروم والعياذ بالله، ويوصف بأنه عاص، ويعاقب على هذا العصيان، كما يعاقب على تلك الأفعال.

وفي الأفعال المنهي عنها والمحرمة، يقولون في من زنى مثلاً أو ارتشى أو سكر: لا يستطيع ترك هذا المنكر ولو كان يستطيع تركه لما فعله، نقول: بل يستطيع ولو لم يستطعه لما نهي عنه، فالله تعالى ما نهى إلا من عنده قدرة على الانزجار وعلى ترك الشيء المنهي عنه، فقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:٣٢] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:٣٣] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم عنه، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:٣١] لو كانوا لا يستطيعون ترك القتل لما نهوا عنه.

فكذلك يقال في الطاعات: لو كانوا عاجزين عن الصلاة لما أمروا بها، لو كانوا عاجزين عن الطهارة لما أمروا بها، فإن الله لا يأمر إلا بما هو مقدور، ولا يأمر بالشيء المستحيل أو الثقيل على النفوس الذي يكون فوق طاقتها.

وبذلك نعرف أن هذا القول مخالف للعقل، حتى في عرف الناس، فمثلاً: إذا كان لك ولد نشيط قوي، فقلت له: يا ولدي! اذهب فاشترِ لنا طعاماً.

فإذا ذهب واشترى فقد أطاع، وإذ لم يذهب فهل يقال: إنه ليس بمستطيع؟! أو يقال: هو عاص لأبيه؟ لا شك أنه يوصف بالعصيان.

ولو كان لك ولد مريض -مثلاً- أو مقعد لا يستطيع أن يذهب، فهل تأمره بأن يذهب إلى السوق ليشتري لك حاجة؟ كيف تأمره وهو مريض مقعد لا يستطيع؟! إذاً: فهذا بيان أن الله ما أمر إلا من هو مستطيع، ولأجل ذلك أسقط الحرج عن غير المستطيع، فلما أمر بالجهاد في سبيل الله أسقطه عن أهل الأعذار، فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:٩١] يعني: لا حرج عليهم إذا لم يخرجوا في الجهاد، فدل على أنه ما أمر إلا من هو مستطيع وعنده قدرة، وبذلك نعرف أن التكاليف إنما هي على حسب قدرة العباد، فلم يأمرهم الله إلا بما هو في طاقتهم وفي وسعهم.