قال رحمه الله تعالى:[وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، فمعناه أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه.
ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذا الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواءٌ سمى جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل أمر اعتباري، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيها لا نهاية له، فليس بموجود] .
هذا تفسير أو إيضاح لما ذكره الطحاوي من أنه (لا تحيط به الجهات الست كسائر المبتدعات) وقصد الطحاوي صحيح، وهو أن الرب سبحانه وتعالى لا يحيط به شيء من خلقه؛ لأن الجهات مخلوقة، فلا تحيط به جهة بمعنى (تحويه أو تحصره) وقد قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:١١٠] ، وقال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}[البقرة:٢٥٥] ، فإذا كانوا لا يحيطون به علماً فكذلك المخلوقات لا تحيط به، أي: لا تحصره أو تحويه، تعالى الله؛ هذا هو قصده.
والجهات الست معروفة، وهي الفوق والتحت واليمين واليسار والأمام والخلف، فمعنى أنها لا تحيط به، أي: لا يحصره جهة منها، بل هو أعظم من ذلك كما يشاء.
ثم لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بأنه فوق عباده في جهة العلو، ولكن لا يلزم من ذلك حصر ولا إحاطة ولا غير ذلك، وقد دلت الأدلة الشرعية على وصف الرب سبحانه وتعالى بصفة العلو، وسيتكلم الشارح على ذلك بتوسع في أثناء الكتاب، ويذكر الأدلة الدالة على أنه تعالى فوق مخلوقاته كما يشاء، قال الله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[الأنعام:١٨] ، وقال:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:٥٠] ، وكذلك غيرها من الأدلة.