للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان معتقد المعتزلة]

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن بُرَآءُ إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم بُرَآء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق) .

الإشارة بقوله: (فهذا) : إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا.

والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كـ داوُد الجواربي وأشباهه.

والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها: العدل.

والتوحيد.

وإنفاذ الوعيد.

والمنزلة بين المنزلتين.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل، وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه! قالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده يزنون بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه.

فأما العدل: فسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور، ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك.

وأما التوحيد: فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض! وأما الوعيد: فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين: فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها.

وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها.

والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدَين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لا تُثاب على ما وافقتَه من الحق، وتعاقَب على ما تركتَه منه؛ لأنك إنما اتبعتَ هواك في الموضعين، وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح، وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً} [الكهف:١٠٤]] .

في هذه الخاتمة تكلم الماتن والشارح على هذه الفرق التي خالفت أهل السنة في الاعتقاد، ولا شك أن مخالفتهم عن عناد، وذلك لأنهم حكَّموا العقول في الشرع، ونظروا فيما يهوَونه، وفيما تميل إليه أهواؤهم، فاتبعوه، فصدق عليهم أنهم ممن اتبع هواه، أو ممن اتخذ إلهه هواه، ولا شك أن الهوى يُعمي ويُصم، وأنه ما تحت أديم السماء إله يُعبد أو يطاع من هوىً يُتبع، وهؤلاء ذكر لنا منهم طائفتين: الطائفة الأولى: المشبهة.

الطائفة الثانية: المعتزلة.

وهما في طرفي نقيض.

فالمعتزلة نسميهم: معطِّلة.

والمشبهة نسميهم: ممثِّلة.

وقد قال بعض السلف: (الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً) .

ويقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبِّه ربنا بصفاتنا إن المشبِّه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان ويقول بعضهم: من شبَّه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن نفى وأبطل ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما أثبته الله لنفسه تشبيه.

وهم يقولون: إثبات هذه الصفات التي وردت في الكتاب والسنة تشبيه، وذلك لأنها صفات موجودة في المخلوق، وإذا كانت موجودة في المخلوق وأثبتت للخالق فقد حصل التشبيه، ويعتمدون على مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهم دائماً يعتمدونها، وهذا دليلهم السمعي، وأما دليلهم العقلي فهو المحكم عندهم دائماً، يجعلون عقولهم حاكمة على الكتاب والسنة، ولا يعترفون من الوحيين إلا بما يوافق أهواءهم، بل العمدة عندهم هو العقل.

والمشبهة هم الذين غلوا في الإثبات، فجعلوا صفات الخالق كصفات المخلوق، فيقول أحدهم: لله أيدٍ كأيدينا، وله أعين وأرجل كصفاتنا، وله كذا وكذا، ويقولون: هذا ما يوجد وعندنا ما نشاهده، وإذا أخبرنا الله بشيء غائب وسماه قسناه على ما نعرفه ونشاهده.

ويقال لهم: كل شيء له صفات تناسب ذاته، فكما أن لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فكما أن ذات الله تعالى لا تشبه ذواتنا فكذا نقول في سائر صفاته.

أما المعتزلة الذين هم المعطلة النفاة فإنهم نفوا صفات الله التي هي صفات كمال، وجعلوها مجازاً، ولم يثبتوا لله لا صفات فعل ولا صفات ذات، فهؤلاء غلوا في النفي.