كان العلماء الجهابذة الذين بلغوا الذروة في المعرفة، وكانوا على جانب من الورع، يسأل كثير منهم فيتوقفون في المسألة إذا لم يكن فيها دليل صريح واضح، يردها هذا إلى هذا إلى أن يتولى الفتيا والقول فيها أحدهم، فيكتفي به عن نفسه.
وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يتلو الآية التي في سورة النحل وهي قول الله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}[النحل:١١٦] الذين يقولون: هذا حلال بأهوائهم، وهذا حرام بأهوائهم، بدون دليل، يقول: إن هذا من الافتراء والكذب على الله تعالى، والقول عليه بغير علم، والآيات التي تقدمت كلها تدل على النهي عن أن يقول الإنسان على الله بغير علم.
ذكروا أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الذي كانت تضرب إليه آباط الإبل، وكان هو المرجع في زمانه، سأله مرة قوم عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل، وتوقف عن ست وثلاثين مسألة! فقالوا له: أتتوقف وتقول: لا أدري وأنت مالك بن أنس؟! فقال: نعم، لا أدري، لا أدري، قولوا: مالك بن أنس لا يدري، قولوا: مالك يقول: لا أدري.
وكان كثير من العلماء يحثون على التوقف عن المسائل، فيقولون: من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه إذا صار يفتي ولا يتوقف، ويستحيي أن يقول: لا أدري، فإنه قد تصاب مقاتله، بأن يزل مرة هنا، ومرة في هذه المسألة، ويحاسبه الله تعالى على أقواله بغير علم، فيقع في الهلاك والعياذ بالله، فالذي عنده علم بالمسألة، وعنده يقين بحكمها، ودليل عليها، وسئل عنها، لا يجوز له السكوت، ولا يجوز له التوقف، بل يقول بموجب علمه بالدليل، ولا يكتم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم:(من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من النار) ، أما إذا سئل وهو لا يعلم، وليس عنده خبرة بهذه المسألة، فلا يجوز له الإقدام عليها، بل يحيله إلى من هو أعلم منه، وإلى من عنده علم بتفصيل هذه المسائل ونحوها.
ولقد اعتنى علماء الإسلام بهذه المسائل التي يمكن أن تقع، اعتنوا بها غاية الاعتناء، واجتهدوا في بيانها، وفي إيضاحها أتم الاجتهاد، والحقوا كل مسألة بنظيرها، فلم يبق لأحد قول، فأنت إذا سئلت عن مسألة فارجع إليها في كتب أهل العلم، وقل: هذه المسألة أفتى فيها العالم الفلاني بكذا، والشيخ الفلاني بكذا، ويوجد بيانها في الكتاب الفلاني، وتورع أنت أن تستحسن فيها أو تقول فيها، يقول بعضهم: وقل إذا أعياك ذاك الأمر ما لي بما تسأل عنه خبر فذاك شطر العلم فاعلمنه واحذر هديت أن تزيغ عنه يقولون: إن كلمة (الله أعلم) شطر العلم، كأن الذي تعلم مسائل كثيرة، وقرأ العلوم المتنوعة، قرأ في التفاسير، وقرأ في كتب الحديث، وقرأ في كتب الآداب والأحكام، وقرأ في كتب العقائد، وحصّل منها معلومات، يقال له: أنت لم تحصل إلا على علم قليل يسير، ولذلك يقول بعضهم: وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته ولو أحصيته ما حصلت إلا على العشر أو أقل من عشر العلوم، فالعلوم واسعة، وما ظفرت منها إلا بنزر يسير، فعليك أن تقتصر على ما تعلمه وتتحققه وتتيقنه.