[الرد على من نفى القدرة على الفعل أثناء فعله]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: يرجح معنى زائد عن الفعل، فذاك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل.
فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كليهما في الإعانة والإقدار سواء، امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك، وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى، وهم لما رءوا أن القدرة لابد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل؛ لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك؛ فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل.
وهذا باطل قطعاً، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لابد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق: وهو أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة، لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين، حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم: أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل.
والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معهم هذه الطاقة، وضد هذه العجز كما تقدم] .
الشارح يناقش بعض المبتدعة الذين يقولون: إن القدرة على الفعل تسبق فعله، وتسبق مزاولته، ولا تصحبه حالة وجوده، فيقولون -مثلاً-: إن الإنسان الذي عنده مال، وتمت قوته وقدرته على الإتيان بالحج، إذا تمت أصبح مكلفاً، ولا تكون القدرة حالة مزاولته للعمل، وحالة سفره، وحالة إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه ونحو ذلك، يقولون: لا تشترط القدرة ولا القوة في هذه الحالات، وما ذاك إلا أنها شرطت في أول الأمر، وزالت الحاجة إليها بعد ذلك، فلا حاجة إلى وجودها وبقائها حالة مزاولة الفعل.
ويقولون كذلك أيضاً في سائر العبادات كصلاة الجماعة -مثلاً-: إذا أمن على نفسه، وكان معه قدرة وقوة، وكان صحيح البدن ليس فيه مرض، وليس بخائف، وجب عليه أن يصلي مع الجماعة، فإذا ابتدأ في الصلاة -مثلاً- أو دخل المسجد أو أقيمت الصلاة فلو زالت القدرة لم تضر، ولا تشترط القدرة ولا وجودها حالة مزاولة الصلاة، هذا تقرير قولهم.
ولا شك أن القدرة والقوة على الفعل لابد من وجودها قبل الفعل وفي حالة وجود الفعل، فإن الإنسان مثلاً مأمور بأن يصلي قائماً، فلو صلى ركعتين من الظهر -مثلاً- قائماً، ثم عجز، رخص له أن يجلس ويتم جالساً، فدل على أن القدرة مشترطة حالة الفعل من أوله إلى آخره، ولو أن إنساناً تجهز للحج، ولما قطع نصف الطريق -مثلاً- عجز وقلت نفقته أو حصل له خوف أو مرض أو نحو ذلك؛ لجاز له أن يرجع ويؤجل الحج؛ لأن القدرة لم تبقَ معه، بل حدث ما يضادها، وهكذا بقية الأعمال.
لكن قد يستثنى منها بعض الأعمال، فإذا تم الحول على المال ووجبت فيه الزكاة؛ تعلقت بذمة المالك، فلو تلف المال بقيت الزكاة في الذمة؛ وذلك لأنه فرط حيث أخر إخراجها، وهناك من يقول: إنها تسقط عنه، بمعنى أنه لو حصد زرعه وجمعه، وقبل أن يخرج زكاته احترق كله، أو حملته الرياح وفرقته، فالصحيح أنه لا يلزمه زكاة؛ وذلك لأنها وجبت مواساة، ومن أين يواسي ما دام أن المال الذي وجبت فيه قد تلف؟! وهكذا مثلاً: لو تم حول نصاب الماشية السائمة، ولما تم الحول ماتت كلها -مثلاً- أو لم يبقَ منها إلا أقل من النصاب، سقطت الزكاة عنها، لأنه أصبح من غير أهل الزكاة.
وكذلك الإنسان إذا صام نصف النهار، حيث أصبح وهو قادر وعنده القوة وعنده الاستطاعة على إتمام صيام ذلك اليوم، ولكن في أثناء النهار أصابه مانع شديد منعه من الإتمام، جاز له أن يفطر، ويقضي ذلك اليوم؛ لأنه أصبح من غير أهل الاستطاعة.
فتبين بهذا أن الاستطاعة التي أمرنا الله بها في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] أن المراد بها الاستطاعة التي قبل الفعل والتي مع الفعل، فقبل الفعل يكون نشيطاً قوياً قادراً على أن يكمل الفعل، ومع الفعل يحصل منه أنه قادر على إتمامه من أوله إلى آخره، فإذا لم يكمله فهو معذور، فهذا توضيح قول أهل السنة، ولا يلتفت إلى قول هؤلاء الذين يقولون: إن القدرة تشترط قبل الفعل ولا حاجة إلى اشتراطها ولا إلى لزومها حالة مزاولة الفعل، وما ذاك إلا أنهم متناقضون.