[القول بتحريم الاستثناء في الإيمان]
قال المصنف رحمه الله: [وأما من يحرمه: فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه.
وسموا الذين يستثنون في إيمانهم: الشكاكة.
وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت.
وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول: إن شاء الله.
هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله.
لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده.
وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل.
وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر، فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص.
وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآناً أو أن الرسول قاله! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥] نسأل الله العافية!] .
هؤلاء هم الذين يمنعون الاستثناء أصلاً، ويسمون من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
شاكاً، ويسمون المستثنين شكاكاً، يقولون: أنت تشك في نفسك، وتشك في إيمانك، كيف تشك وأنت جازم بأنك من أهل الإسلام، وبأنك من أهل الإيمان؟! أنت تعرف أنك تتشهد الشهادتين، قد نطقت بالشهادتين، ومعلوم أن من نطق بالشهادتين دخل في الإسلام، فإذا دخل في الإسلام فليس شاكاً فيه.
فكذلك -أيضاً- إذا دخل في الإيمان لم يكن شاكاً فيه، فيمنعون الاستثناء، ويحرمون أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله.
بل يقول أحدهم: أنا مؤمن حقاً.
كما يقول: أنا مسلم حقاً.
لا شك أن الاستثناء في الإيمان يرجع إلى الخاتمة كما تقدم، ويرجع إلى الكمال، والقول الوسط هو المختار: وهو أن الإنسان إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله.
كان قصده بذلك العاقبة، وكان قصده الكمال، يعني: أن الله يوفقني لأن أكمل أعمال الإيمان، وآتي بكل ما أمرت به، وبكل ما هو من الإيمان، وهذا علمه عند الله، فإذا شاء الله وفقني لذلك، هذا هو القول الوسط.
أما الذين حرموا الاستثناء فإنهم يجزمون أو يقولون: إن الإنسان قد آمن يقيناً، فلم يكن في شك ولم يكن عنده تردد، هؤلاء يدعون أن الإيمان هو الكلمة، ويقولون: إن من قال: آمنت بالله.
فقد كمل إيمانه، فلا حاجة إلى أن يستثني.
وسمعنا جوابهم عن الآية، وهي قوله تعالى في سورة الفتح: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧] ، فيقولون: الاستثناء إنما هو للأمن.
يعني: أن الدخول محقق، ولكن الأمن فيه تردد.
وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أخبر بالأمن كما أخبر بالدخول، وخبر الله محقق، فليس فيه تردد! إذاً: وقعوا فيما فروا فيه، فأجاب بعضهم بأن قوله: ((إن شاء الله)) راجع إلى دخولهم كلهم، حيث علم الله أن بعضهم يموت قبل الدخول.
والجواب أيضاً: أن المراد أن الله تعالى أخبر بالدخول، وليس المراد دخول الذين خوطبوا بهذه الآية كلهم، بل المراد جنس الدخول، فإنه قد انضم إليهم غيرهم، وإن كان قد مات بعضهم.
وأما جواب الزمخشري أن كلمة (إن شاء الله) ليست من كلام الله، وإنما هي من كلام جبريل أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قول بعيد، يلزم منه أن في القرآن ما ليس من كلام الله تعالى، والزمخشري ولو كان لغوياً لكنه معتزلي، دخل في الاعتزال وتمكن منه، فبنى ذلك على مذهبه الباطل.