قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ولا إله غيره) : هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[البقرة:١٦٣] قال بعده: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:١٦٣] فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره! فقال تعالى:{لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:١٦٣] .
وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: لا إله إلا هو، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وقد أجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن) فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين (لا ماهية) و (لا وجود) ، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود، و (إلا الله) مرفوع بدل من (لا إله) لا يكون خبراً لـ (لا) ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد رفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو فاسد، فإن قولهم (في الوجود) ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال الله تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}[مريم:٩] .
ولا يقال: ليس قوله: (غيره) كقوله: (إلا الله) لأن غير تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] .
قوله:(ولا إله غيره) هذه كلمة الإخلاص، وهي كلمة (لا إله إلا الله) ، ففي دعاء الاستفتاح يقول:(سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، وهو معنى: لا إله إلا أنت، أي: ليس هنا إله يصلح للإلهية غيرك، وهو معنى الاستثناء في قوله: إلا الله.
وقد تكررت هذه الكلمة بهذا اللفظ (لا إله إلا الله) ، كقوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد:١٩] وبلفظ: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[البقرة:١٦٣] كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ}[الحشر:٢٣] وبلفظ: (لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) في دعاء ذي النون في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:٨٧] ووردت من كلام الله، وفي قوله تعالى:{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي}[طه:١٣-١٤] وكله معناه واحد، وهو: نفي الإلهية عن غير الله.
وأما الإعراب الذي ذكر عن النحويين أنهم قالوا: لا إله في الوجود إلا الله، فقد تعقبه العلماء وقالوا: إن هناك في الوجود من يسمى إلهاً، ولكن لا يصلح أن يكون إلهاً، فالصواب أن يقال: لا إله حق إلا الله، أو: لا إله بحق إلا الله؛ أي: لا أحد يستحق الإلهية إلا الله، فالتقدير (بحق) أولى؛ وذلك لكثرة من يسمى إلهاً مما تألهه القلوب، ويتخذه المشركون إلهاً.