[من الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد]
أخبار الآحاد لا شك أنها متى ثبتت فإنها تفيد اليقين، وتفيد العلم، وضرب الشارح لذلك أمثلة، وذكر على ذلك أدلة، منها: أن أهل قباء كانوا يصلون إلى القبلة التي كانوا عليها، إلى جهة بيت المقدس، فجاءهم رجل واحد وهم في نفس الصلاة، وقال لهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها) ، فصدقوه وهو واحد، وهم على قبلة متحققين لها، فاستداروا من الشمال إلى الجنوب نحو الكعبة، وعملوا بقوله وهو واحد، فلا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد الصادق المتثبت يعمل به ويقدم ويصدق.
رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومع ذلك صدقوه وقبلوا ما جاء به، والرسل الذين يرسلهم الله تعالى غالباً أنهم أفراد، أرسل الله نوحاً وحده، وأرسل هوداً وأرسل صالحاً وأرسل شعيباً وأرسل لوطاً وأرسل موسى وهارون، ولا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد يقبل ويفيد العلم.
كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كان يرسل الدعاة أفراداً، فأرسل معاذاً -مثلاً- إلى اليمن داعية إلى الله، وكذلك أرسل أبا موسى، وأرسل علياً، وأرسل عماراً، وأرسل سلمان، كل منهم إلى جهة، أرسلهم للدعوة.
كذلك -أيضاً- كان يرسل جباة الزكاة أفراداً، يأتي الفرد الواحد إلى أهل الإبل أو الغنم، ويقول: أعطوني زكاتكم، أنا مرسل من النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يقولون له: أنت واحد.
بل يقولون: خذ زكاة أموالنا.
فيقبلون خبره.
الحاصل: أن الأدلة متنوعة، وإنما هذه نماذج مما ذكر منها.
وبذلك يعرف أن الحق قبول خبر الواحد إذا كان ثابتاً ويقيناً، وأن الناس يعملون بذلك، فما دام كذلك فلا مجال لرد ثلث السنة أو ثلثيها بهذه الشبهة، ومع ذلك فالذين ردوها ما ردوا إلا قسماً خاصاً وهو ما يتعلق بالعقائد، وأما ما يتعلق بالأعمال فإنهم رأوا الناس يعملون به، وقالوا: إن الناس يعملون بخبر الآحاد فهو يفيد العمل ولا يفيد العلم.
وهذا في الحقيقة تناقض، ومعلوم أن كتب السنة قد تلقتها الأمة بالقبول وعملوا بها، فصحيح البخاري تلقته الأمة بالقبول، واعتقدوا ما فيه، وصاروا يعملون به ويطبقونه، ولم يقولوا: إنه أخبار آحاد.
وكذلك صحيح مسلم، وكذلك الكتب التي تعتمد الصحة تلقتها الأمة بالقبول بدون توقف، فكانوا يعملون بما فيها؛ لأنها ثابتة، وأسانيدها قوية، ليس فيها كذاب، وليس فيها من يشك في صدقه، وبذلك يعرف أن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم محل القبول، لا يجوز ردها، حتى ولو خالفت ما في العقول، حتى ولو خالفت ما في فطر الناس أو في أفكارهم، تقدم على قول كل قائل، وعلى عقل كل عاقل، سيما وعقول أولئك الذين ردوا السنة أو ردوا الآيات عقول مضطربة، عقول مختلفة، وشبهاتهم التي يشبهون بها لا شك أنها مضطربة أيما اضطراب، ويحصل فيها التناقض.
فيشاهد أن الواحد منهم يبقى -مثلاً- ثلاثين سنة وهو يقول: إن هذه الصفة ينكرها العقل، ثم بعد ثلاثين سنة، وبعدما يكون نضج عقله، يرجع ويقرها! سبحان الله! ثلاثين سنة من زمانك ومن عمرك وأنت تنكرها، ثم بعد ذلك أقررت بها، هل تغير عقلك؟! هل تبدل عقلك؟! فهذا دليل على أن عقولهم ليست ميزاناً.
وكذلك نجد مجموعة -مائة أو ألفاً- من العلماء في هذا البلد ينكرون هذه الصفة، ويقولون: العقل ينكرها، ونجد في البلد الثاني ألفاً أو ألوفاً يقرون بها، ويقولون: العقول تثبتها، فإذاً: كيف تكون هذه العقول مختلفة؟ هؤلاء يقولون: نثبت، وهؤلاء يقولون: ننفي، هؤلاء يقولون: لا يقر بها العقل، وهؤلاء يقولون: بل يثبتها ويوجبها! إذاً: فهذه العقول تضطرب؛ فهي عقول غير متزنة.
فأدلتهم وشبهاتهم هذه لا عبرة بها، وقد شبهها بعض العلماء بالزجاج الذي يضرب بعضه بعضاً فيتكسر، إذا ضربت الزجاجتين إحداهما بالأخرى بقوة هل يبقى منهما شيء؟ كلاهما تتكسر، فهكذا أدلة هؤلاء مع هؤلاء تضرب هذا بهذا فيتكسر الدليلان، أما أدلة أهل السنة من الكتاب والسنة فإنها ثابتة، لا يعتريها شيء من التغير.