قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) ، فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب] .
هذا رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى، أو: إن كلام الله هو ما يقوم بنفسه، وأما اللفظ فهو عبارة، وهم الذين استدلوا بالبيت السابق، حيث جعلوا الكلام هو ما يقوم بالقلب، وجعلوا اللسان دليلاً عليه.
يقول: من الرد عليهم هذا الحديث؛ إذ يقول عليه الصلاة والسلام:(إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) .
وحديث النفس: هو الوساوس التي تخطر على القلب، فهذه مما عفا الله عنه، بل قد يكتبها حسنات، ففي الحديث:(إذا هم العبد بالحسنة ولم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة قال الله تعالى: إنما تركها من جرائي) أي: من أجلي.
فالهم الذي هو حديث النفس معفو عنه، فالعبد لا يؤاخذ على ما يهم به ولا على ما يحدث به نفسه، إنما يؤاخذ على ما يتكلم به، فإذا تكلم وسمع كلامه ترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا يصدق حتى على الأمور الحكمية، فلو أن إنساناً حدث نفسه أن يطلق امرأته وعزم على ذلك بقلبه، ولكنه لم يتكلم بكلمة فيما يتعلق بذلك، وإنما كان ذلك حديث نفس، ثم بعد ذلك رجع لم تطلق زوجته بمجرد عزمه بقلبه، فلا تطلق إلا إذا تكلم بذلك أو كتب أو أشهد.
فكذلك إذا حدث نفسه -مثلاً- بأنه سوف يزني، أو سوف يسرق، أو سوف يقتل فلاناً، أو سوف يشرب خمراً، أو يترك صلاة أو زكاة أو نحو ذلك، فحديث نفس طرأ عليه ولكنه ما فعله، فإن ذلك مما يعفى عنه، ولو كان حديث النفس يسمى كلاماً لما عفي عنه؛ فإن الله تعالى يؤاخذ على الكلام، وذلك لأنه عمل.
فإذاً حديث القلب ووسواس النفس وما يجري فيها من الخطرات ليس كلاماً، ولا يؤاخذ به العبد.