[الوجه الثاني في استلزام الشهادة للأمر بالعبادة]
قال رحمه الله: [وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضاً: فلفظ (الحكم) و (القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية وحكم، وقد حكم فيها بكذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:١٥١-١٥٤] ، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥-٣٦] لكن هذا حكم لا إلزام معه] .
وهذا أيضاً بيان أنه يؤخذ الحكم من هذا الأمر، فالأمر بالتوحيد هو الإلزام به، فإن الإنسان إذا سمع حكم الله تعالى فإنه يتبعه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} [المائدة:٥٠] ، إذا عرف أن الله أخبر بهذا الشيء، وأنه أعلم خلقه بأنه الإله، فإنه يعرف أنه الإله الحق الذي يستحق أن يؤله، فكأنه يقول: إن الله يأمرنا بأن نتخذه إلهاً، ونترك التأله لغيره، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية يقول: إذا فسرنا (شهد) بحكم، وأخبر، فإن الخبر والحكم يقتضي الإلزام، ومعلوم أن الحكم هو: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، كما يقول ذلك الأصوليون، فإذا حكم الله لنفسه بالإلهية، وحكم لغيره بعدم الصلاحية للإلهية، فهذا حكم من الله، وحكم الله واجب الإتباع.
والحكم قد يطلق كما سمعنا على كل قضية، فكل قضية قد تسمى حكما، تقول: هذه قضية فلان وحكم فيها فلان بكذا وكذا، كما في هذه الآيات، التي أخبر الله بها بأن هذا الأمر حكم منه.
فعلى كل حال الآية صريحة في إبطال إلهية ما سوى الله تعالى، وإثبات الإلهية لله تعالى، والإثبات يستلزم الإلزام.
قال رحمه الله: [والحكم والقضاء بأنه: لا إله إلا هو متضمن الإلزام، ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل] .
يقول: إن مجرد الشهادة لا تتم إلا إذا كان معها إلزام، فالله تعالى عندما شهد كأنه ألزم، شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وهذه الشهادة تستلزم الأمر الذي ينتج منه الإيجاب، ومعلوم أن الشهادة لا ينتفع بها إلا إذا بينت؛ يقول: لو أن إنساناً عنده شهادة لك، وكتمها، ما حصل أنك تنتفع بها، فلا تنتفع بها إلا إذا بين وقال: لك عندي شهادة، فالله تعالى شهد لنفسه وبين هذه الشهادة بهذه الطرق.