[الرد على من أنكر صفة العلو لله سبحانه]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية النفيين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً، وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] وعرشه فوق سبع سماوات.
قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.
وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل.
انتهى.
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابته لـ بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.
ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة! فإن قول القائل ابتداءً: الله خير من عباده، وخير من عرشه.
من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض!! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!! بل في ذلك تنقص كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء؛ للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩] ، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:٥٩] ، و {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٣]] .
يبين الشارح بهذا الرد على هؤلاء المتأولين لهذه الأدلة التي يقول المصنف: إنها لو بسطت أفرادها لبلغت ألف دليل، وهم يعجزون عن أن يجيبوا عنها دليلاً دليلاً، ولذلك سلكوا في التخلص منها مسالك رديئة، فقالوا: إن معنى قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] أي: خير من عباده، كما يقال مثلاً: هذا الطعام فوق هذا الطعام.
يعني: خيراً منه، أو: هذه الشاة فوق هذا الشاة.
يعني: أفضل منها، وما أشبه ذلك، فتأولوا قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بمعنى: خير من عباده.
ولا شك أن هذا من الكلام الذي لا فائدة فيه، ومثلها الأمثلة التي ذكرها الشارح، فلا شك أنه لا مناسبة بين الخالق والمخلوق حتى يقال: إن الله خير من عباده لأمور منها: أولاً: أنه سماهم (عباده) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فكيف يقال: وهو القاهر الذي هو خير منهم؟! ثانياً: ولله المثل الأعلى لا يقال في ملك يملك الكثير من البلاد: هذا الملك خير من هذا المملوك الذي هو عبد ذليل؛ لأنه لا مناسبة بينهما، لو قال ذلك أحد لاستحق التأديب، كيف يقال: إن هذا خير من هذا مع أنه لا مناسبة ولا مقاربة بينهما؟! فكذلك لا يقال: (فوق عباده) أي: خير من عباده.
وكذلك بقية الكلام الذي سمعنا، لا شك أنه كلام بارد سامج، كقولهم: السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والشمس حارة، أو الشمس أضوأ من السراج، لا مناسبة بينهما حتى يقال ذلك.
وضرب المصنف المثل بهذا البيت: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا صحيح أن السيف أمضى من العصا، ولكن ينقص قدر السيف إذا قيل ذلك، فلا مناسبة بينهما، فالسيف له قدره، والعصا أنقص قدرة منه.
وكذلك لو قال قائل: الجوهر -الذي هو من أنفس ما يدخر- خير من قشر البصل، أو من قشر السمك.
هذا صحيح، ولكن من سمع هذا استهزأ بقائله، وقال: لا مناسبة بينهما؛ فبذلك يعرف أن هذا الكلام كلام رديء، وأنه لا مناسبة له.
ويجب أن تفسر هذه الآيات بالمعاني التي تناسبها، فيقال في الفوقية: إنها فوقية القدر، وفوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة.
ويقال أيضاً في العلو: إن الله تعالى عالٍ بجميع أنواع العلو، ومن ذلك علو الذات.
ويقال في بقية الأدلة مثل ذلك، وهذه الأدلة بأنواعها التي لو بسطت لبلغت أفرادها ألف دليل، فلو اجتمع منها عشرة فقط لصعب التخلص منها فكيف إذا اجتمع مائة دليل؟! فكيف إذا اجتمع ما يقرب من ألف دليل؟! كيف يجيبون عنها ويتخلصون منها؟!! إذاً: ليس لهم إلا أن يسلموا بهذه الصفة التي هي صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بأن الله هو العلي الأعلى، ويعترفون بصفاته التي منها: أنه قريب منهم، وأنه مطلع عليهم، وأن علوه وارتفاعه على خلقه لا يلزم منه غيبة ولا بعد، ولا خفاء شيء عليه كما أخبر بذلك في كتابه في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس:٦١] يعني: وما يغيب عنه ويذهب عليه مثقال ذرة مما في السماوات ومما في الأرض، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:٧] أي: أنه تعالى ليس غائباً عن عباده، بل هو مطلع عليهم، سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦] ) فعند ذلك أمرهم أن يناجوا ربهم، وأن يسألوه سراً، ولما رفع الصحابة أصواتهم مرة بالتكبير، وكانوا في سفر، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فأمرهم أن يدعوا ربهم سراً، وأن يناجوا ربهم، ويذكروه، ويستحضروا عظمته، فإنه يعلم سرهم ونجواهم، ومتى استشعر العبد هذه الصفة التي هي صفة الفوقية والقهر والغلبة، واستشعر صفة القرب والمناجاة ونحو ذلك؛ حمله ذلك على أن يعظم ربه، وأن يعبده حق عبادته.