[ذكر الشفاعة العظمى]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار) .
الشفاعة أنواع، منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة.
منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدُفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟! ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتُ بها على قومي، نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -وذَكَرَ كذباته- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو- وكلمتَ الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنباً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تُشَفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي! يا رب! أمتي أمتي! يا رب أمتي أمتي! فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) .
أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد] .
هذا أيضاً من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان بالشفاعة التي هي شفاعته لأهل الموقف في إراحتهم من الموقف، فيؤمن بذلك أهل السنة.
وقد أنكرت ذلك الخوارج، وكذلك أنكرته المعتزلة، وقد غلا بعض المشركين وأثبت الشفاعة بدون إذن الله سبحانه وتعالى، وقول أهل السنة هو الوسط، وهو أنه يشفع وكذلك غيره، ولكن لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، فالشفاعة عند الله تعالى في الآخرة بإذنه.
وقد ورد في هذا الحديث أنه يقول: (اشفع تشفع) ، فلا يبدأ بالشفاعة أولاًَ حتى يأذن الله تعالى له بأن يشفع، وكذلك غيره من الأنبياء لا يشفعون، وكذلك الملائكة لا يشفعون إلا بعد إذن الله سبحانه وتعالى.