أراد بهذا الرد على أولئك الذين كلما جاءتهم صفة لله موجودة في المخلوق نفوها عن الله تعالى وجعلوها مجازاً، أو تأولوها بتأويلات بعيدة، وزعموا أن إثباتها فيه شيء من التشبيه، فيقال: يلزمكم على هذا أن تفرقوا بين صفات المخلوقين، وأن تجمعوا بين صفاتهم وصفات الخالق، ويرد عليهم بهذه الآيات.
وفيما تقدم من كلام المؤلف: أن الله سمى نفسه بعدة أسماء وسمى بها بعض خلقه، فمن أسمائه: العزيز، وسمى بعض خلقه بذلك بقوله:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}[يوسف:٥١] ومن أسمائه: الملك، وسمى به أيضاً بعض خلقه في قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}[يوسف:٥٠]{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}[الكهف:٧٩] ومن أسمائه: المؤمن، كما في سورة الحشر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه، وكثيراً ما يذكر المؤمن والمؤمنين والمؤمنات، ومن أسمائه الجبار المتكبر، وقد سمى به أيضاً بعض خلقه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[غافر:٣٥] .
ومعلوم أنه ليس الاسم كالاسم، فليس الملك كالملك، وليس العزيز كالعزيز، وليس الجبار كالجبار، فملك الله ليس كملك المخلوق، وعزة الله ليست كعزة المخلوق، إذ عزة المخلوقين محدودة، وهكذا يقال في بقية الأسماء.
فكذلك إذا سمى الله نفسه السميع البصير {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:١٣٤] ، وسمى الإنسان بقوله:{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[الإنسان:٢] ، عرف أنه ليس السمع كالسمع، وليس البصر كالبصر، وإن كان الاسم متحداً، فإن السمع هو: إدراك الأصوات، والبصر هو: إدراك المبصرات والمرئيات، ولكن بينهما تفاوت.
هذا في الأسماء.
وكذلك يقال في الصفات: إذا وصف الله نفسه بالعلم، ووصف به بعض خلقه، عرف أنه ليس العلم كالعلم، بل بينهما فرق، فعلم الله ليس كعلم المخلوق الذي هو حادث، والذي يعتريه نسيان وتغير، فالله وصف نفسه بالعلم وهو صفة ذاتية، فلا يعتريه جهل ولا تتغير معلوماته {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:٢٩]{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}[فاطر:١١] ووصف أيضاً بعض خلقه بالعلم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:٧٦] وليس العلم كالعلم.
وكذلك القدرة كما في هذه الأحاديث في قوله:(بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق) وفي قوله: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي) وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا إثبات لهذه الصفة.
فإذا أثبتها المسلم فإن عليه أن يعتقد أنه ليس معناها كالمعنى الذي يثبت للمخلوق، بل صفة المخلوق تليق به، وصفة الخالق تليق به، وبهذا إن شاء الله يصير المؤمن موحدا، فإذا أثبت الصفات ولم يعتقد فيها شيئاً من التشبيه، لامتناع التشابه بين صفات الخالق وصفات المخلوق، ولم ينفها عن الخالق، واعتقد أنها حقيقة لائقة بالخالق سبحانه، وأن صفات المخلوق يعتريها التغير والنقص، وليس كذلك صفات الخالق فلا يكون هذا مشبهاً.
بل المشبه كما عرفنا هو الذي يبالغ فيقول: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وذاته كذوات المخلوق؛ تعالى الله عن ذلك! وهؤلاء هم الذين رد الله عليهم بعدة آيات كما في قوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم:٦٥] وفي قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}[النحل:٧٤] وفي قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا}[البقرة:٢٢] ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:٤] وأشباه ذلك، فإن هذا رد على الذين جعلوا المخلوق كالخالق، أو الخالق كالمخلوق، تعالى الله عن قولهم!