للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على من يجعل الفعل المتروك غير مقدور عليه]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته؛ لأن ذلك لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، بخلاف هذا.

ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه.

وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق؛ لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده، بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة -التي هي الاستطاعة وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل، فقالوا: كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.

وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل، فذلك ليس شرطاً في التكليف، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل.

وقد يحتجون بقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود:٢٠] ، {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً} [الكهف:٦٧] وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع، ولو أراد بذلك المقارن، لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع، فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى، ولكن هؤلاء؛ لبغضهم الحق وثقله عليهم، إما حسداً لصاحبه، وإما اتباعاً للهوى، لا يستطيعون السمع.

وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع، وليس عنده منه علم.

وهذه لغة العرب وسائر الأمم، فمن يبغض غيره يقال: إنه لا يستطيع الإحسان إليه، ومن يحبه يقال: إنه لا يستطيع عقوبته؛ لشدة محبته له، لا لعجزه عن عقوبته، فيقال ذلك للمبالغة، كما تقول: لأضربنه حتى يموت، والمراد: الضرب الشديد، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه؛ لفسدت السماوات والأرض، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:٧١]] .

لا شك أن هذا الكلام معاتبة ومجادلة لبعض من خالف الحق في هذه المسألة، وأنه لا فائدة فيه، ولا طائل في مجادلتهم؛ لأنها أقوال تخالف المحسوس، وتخالف المعقول؛ وذلك لأن العبد قد أعطي قوة، ولا شك أن تلك القوة كامنة فيه، وأنه بواسطتها يستطيع أفعالاً وإن لم يفعلها، فهؤلاء المبتدعة من جبرية وقدرية ونحوهم عندهم أن الأفعال التي لم تفعل ولو كانت سهلة توصف بأنها غير مقدورة للعبد، فإذا رأوا إنساناً كافراً قالوا: هذا لا يقدر على أن يؤمن، مع أنه يقدر، وإذا رأوا إنساناً ما صلى قالوا: هذا لا يقدر أن يصلي، فكل شيء لم يفعله الإنسان مع قدرته عليه يقولون: إنه لا يقدر عليه، مع أنه في استطاعته، وهذا يخالف الحس ويخالف الظاهر.

فمثلاً: أنت لو رأيت إنساناً قوي البنية وقوي البدن تستطيع أن تقول: هذا يستطيع أن يحمل مثلاً كيساً ولو لم يحمله، ولو لم تره قد حمل هذا الكيس من قبل، ويكون ذلك أيضاً فيما سخر الله من الدواب التي تركب عليها، فيقال: إن هذا الجمل يستطيع أن يحمل مائة صاع ولو أنه ما حمل عليه.

فإذاً الاستطاعة والحمل ليسا بمحصلين لما فعل، بل بما توافر فيه واستقر فيه من الوصف، فهو يستطيعه ولو لم يباشره.