[الكلام على آية الحجرات في الفرق بين الإسلام والإيمان]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) : انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة.
وأجيب بالقول الآخر، ورجح، وهو: أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل والزاني والسارق ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين.
ثم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:١٤] ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة.
ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:١٥] يعني -والله أعلم- أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء، لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل.
يؤيد هذا: أنه أمرهم -أو أذن لهم- أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:١] .
والله أعلم بالصواب] .
هذه الآية في سورة الحجرات {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:١٥] يعني: أن المؤمنين حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفات: أولاً: التصديق الجازم بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراده.
ثانياً: نفي الريب، والبعد عن الريب الذي هو الشك: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) أي: لم يداخل قلوبهم شك ولا توقف، بل هم على يقين جازم بما هم عليه، دون أن يشكوا في شيء من أمر البعث أو الحشر أو الجزاء أو نحو ذلك.
ثالثاً: العمل، وهو قوله: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فهذا من أمثلة العمل، يعني: أنهم جمعوا بين الإيمان الذي هو العقيدة وعدم الريب والعمل، فيكون ذلك هو حقيقة الإيمان، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، إنما المؤمنون من كان على هذا الوصف.
والحاصل: أن الله نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام بقوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، وأخبر بأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، ولكن آمنوا إيماناً ظاهراً، ولا شك أن هؤلاء الأعراب من بوادي المسلمين، دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولأجل ذلك ارتد الكثير منهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لم يتمكنوا ولم يتوغلوا في الإسلام، فهؤلاء مسلمون، ولكن لم يكونوا على يقين، ولم تصل إليهم الأدلة اليقينة.
هناك من يقول: إنهم منافقون.
والصواب: أنهم ليسوا من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١٤١] ، ووصفهم بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:١٤٣] ، بل هؤلاء أسلموا ظاهراً وانقادوا؛ ولكن لم تطمئن قلوبهم، ولعل إسلامهم كان بالغلبة لما أنهم غلبوا، أو لعل إسلامهم كان بالظهور، لما رأوا الإسلام يعلو ويظهر آمنوا كتجربة وكنظر، يقولون: ندخل في هذا الإسلام، ثم بعد ذلك نختبره وننظر، فإن كان له الرفعة والمنعة والنصرة والقوة والتمكين اطمأننا فيه، وكذلك إن وجدنا منه سعة ووجدنا منه ثروة وغنى وراحة ومحبة لمطلب أو توسعة علينا، قبلناه وتأثرنا به، وإن وجدنا غير ذلك رددناه ورجعنا على ما كنا عليه.
فدخلوا عن تجربة لا عن يقين، فليسوا مثل الصحابة الذين دخلوا عن يقين.
وما أكثر الذين هذه حالتهم! ولكن إذا منَّ الله على العبد فدخل الإسلام، ثم بعد ذلك يسر له من يشرح له تعاليم الإسلام والإيمان، ويبين له الأدلة اليقينية؛ فإنه عند ذلك يقتنع، وينشرح بذلك صدره، ويعرف ويستيقن بأن الإسلام هو الدين الحق، وأنه هو الدين الصواب، فعند ذلك تظهر عليه آثار الإسلام، وهي الأعمال الصالحة.