للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إثبات توحيد الربوبية يلزم منه إثبات توحيد الألوهية]

قال رحمه الله: [فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية] .

يقول: إذا عرفنا توحيد الربوبية فإنه يلزم منه توحيد الإلهية، وقد ذكرنا أن بعض المشايخ يقولون في تقريرهم: اعرفوا الله بأفعاله ووحدوه بأفعالكم.

وأفعال الله هي خلقه وتدبيره، فإنها هي الدلالة على معرفته، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك فقل: بآياته ومخلوقاته.

فتعرف الله بأفعاله، (ووحدوه بأفعالكم) يعني: خصوه بعبادات، فهذه الآية: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١] والآيات الأخرى تقرر توحيد الربوبية، وإذا استقر توحيد الربوبية أصبح دليلاً على توحيد الإلهية، أي أن الإله الخالق الرازق المدبر المتصرف في هذا الكون الذي يجري هذه الأشياء كما هي ويحيي ويميت، والذي ابتدع هذا الكون من غير سابق خلق لا شك أنه الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، فيكون هذا دليلاً على توحيد العبادة.

قال رحمه الله: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] ، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب.

وأيضاً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا] .

هذه الآية في سورة الأنبياء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] هي من أوضح الأدلة على توحيد العبادة، وفيها أنه إذا قدر أن فيهما آلهة إلا الله فإن كل إله أو كل خالق يدبر ما من شأنه أن يستطيعه، ويحرص على أن يتغلب على من إلى جانبه، فلا تنتظم هذه الأفلاك ولا هذه المخلوقات، بل يحصل فيها شيء من الخلل، ويحصل فيها شيء من الاضطراب، ومثل ذلك مشاهد، فإنه لو قدر أن هناك شريكين في أمر فكل منهما يحب أن يكون هو المسيطر وهو المتسلط، ولكان كل منهما يهمل الذي في جانب الآخر، فيقع الإهمال والاختلال، فلما رأينا الأمور منتظمة عرفنا أنه ليس فيهما آلهة إلا الله وحده.

قال رحمه الله: [وأيضاً فإنه قال: (لفسدتا) ، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا، ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد] .

الله تعالى يقول في هذه الآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:٢٢] ، وقد استنبط المؤلف أن هذه الآية دليل على إثبات توحيد الإلهية وليس توحيد الربوبية، فهو لم يقل: لو كان فيهما أرباب، ولا ملوك، ولا ملّاك، ولا خالقون.

بل قال: (آلهة) ، والإله هو المعبود المألوه كما سيأتي إن شاء الله.

وأيضاً فإن الله قال: (لو كان فيهما) ولم يقل: لو كان في الوجود.

وهذا دليل على أنه بعد إيجادهما، والله قال: (لفسدتا) ، ولم يقل: لم توجدا.

فالآية تقرر توحيد الإلهية ولكنه متوقف على توحيد الربوبية.

فيخبر تعالى بأن الإلهية لا تصلح إلا لإله واحد وهو الله، وأن من جعل معه آلهة أخرى فإنه قد ضل، وقد أخبر الله بأن المشركين يجعلون معه آلهة، كقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:١٩] ، ولكن تلك الآلهة آلهة مخلوقة ضعيفة لا يصلح أن تتخذ آلهة، وهذا في شرك الأولين، وكذا في شرك الآخرين، وإن كانوا لا يعترفون بتسميتها آلهة.

والحاصل أن الإلهية الحقة إنما هي للخالق وحده، وهذه الآية في توحيد الإلهية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} [الأنبياء:٢٢] ، ولكن توحيد الإلهية مسبوق بتوحيد الربوبية، ولا يعترف العبد بتوحيد الإلهية إلا بعدما يعترف بتوحيد الربوبية.