[رسالته إلى الإنس وعمومها]
أما رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الإنس، فلا شك أنه مرسل إلى الإنس وأنه رسول إليهم، وأنه عام الرسالة وليس خاصاً إلى قومه قريش، ولا إلى العرب، ولا إلى أهل جزيرة من الجزر، بل عام لكل من على وجه الأرض ممن بلغته الدعوة من الإنس، دل على ذلك النصوص التي فيها خطاب الناس جميعاً، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ َ} [البقرة:٢١] فيه عام لكل إنسي، وكذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:١] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:١] ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:١٣] ، فالخطابات بـ (يا أيها الناس) تدل على أنه مأمور بأن يبلغ الناس كلهم ما أنزل إليه.
وهكذا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:١٥٨] ، يخاطب الناس كلهم ويقول: إني رسول الله إليكم جميعاً، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:٢٨] أي: للناس كلهم، وكذلك الآيات التي سبقت في قوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩] ، وقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:١] ، والعالمين: كل من على وجه الأرض من الخلق الذين لهم معرفة ولهم إدراك، وهم جنس بني آدم.
والدليل على ذلك أيضاً فعله، فهو عليه الصلاة والسلام لم يخص رسالته بقومه ولا بالعرب ولا بأهل الجزيرة، فإذاً ليست رسالته خاصة بالعرب كما يقول علماء النصارى، فالنصارى لما رأوا مميزاته، ولما رأوا أنه انتصر وظهر دينه وتأيد وتمكن وعلا على الأديان كلها وحقق الله قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٣] بهتوا، فلم يجدوا بداً من تصديقه، ولكنهم قالوا: هو رسول وهو صادق، ولكن ليس رسولاً إلينا، بل هو رسول إلى العرب.
و
الجواب
كذبتم، فلو كان رسولاً إلى العرب لما دعا غيرهم، فكيف يقول: إني رسول إلى الناس جميعاً وهو رسول إلى العرب، والرسول لا يكذب، ولا يرسل الله كذابا، فأنتم الآن كذبتموه وزعمتم أنه قال: إني رسول الله إلى الناس جميعاً، مع أنه ليس رسولاً إلا إلى العرب، فإذاً هو قد كذب، وإذا صدقتموه فصدقوه في كل شيء، فلا تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض، ولا تصدقوه ببعض قوله دون بعض.
ثم سبق أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه إلى ملوك زمانه، فبعث إلى النجاشي ملك الحبشة التي تعرف الآن بـ (أثيوبيا) ، وبعث إلى المقوقس ملك مصر ويمتد ملكه إلى بعض الدول الأفريقية ومع ذلك كانوا نصارى أيضاً، وبعث إلى ملك الروم الذي هو هرقل، وكان في دمشق الشام، ويملك الشام كله وما وراءه إلى بلاد تركيا وإلى ما وراءها، وبعث إلى ملك الفرس الذي هو كسرى، وكان الفرس آنذاك مجوساً، وكان يملك العراق وبلاد فارس كلها وما اتصل بها من وراء النهر، أي: البلاد الشرقية كلها، فبعث إليهم جميعاً يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مبعوث إلى كل الناس.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت إلى الأحمر والأسود) يعني: بعثت إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، والأحاديث كثيرة، فعلى هذا تكون رسالته عامة؛ لأنه خاتم الأنبياء، وإذا كان خاتم الأنبياء لزم أن يكون مرسلاً إلى الناس كلهم؛ لأنه ليس بعده نبي، فلا يليق أن تهمل الأمم الأخرى والدول الأخرى النائية التي في أطراف البلاد التي لا يأتيها رسول ولا يكون مرسلاً إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى) في جر (كَافَّة) نظر؛ فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّة لِلنَّاسِ} [سبأ:٢٨] على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حال من (الكاف) في (أرسلناك) ، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل.
وقيل: هي مصدر (كف) ، فهي بمعنى (كفاً) أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير.
الثاني: أنها حال من (الناس) .
واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.
الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة.
واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.
وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة، والضياء أكمل من النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس:٥]] .
كلامه على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:٢٨] قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (وبعثت إلى الناس كافة) والمراد عامة، فلا حاجة إلى كل تلك التقديرات، فـ (كافة) أي: عامة.
أي: إلى كل الناس.
وأما كلامه على وصف ما أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أرسل بالنور والهدى، فلا شك أن هذا وصف مطابق للشريعة التي جاء بها، وأنها مشتملة على الهدى، ومشتملة على الضياء وعلى النور وعلى البيان وعلى الحق، وذلك الوصف الذي جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وصالحة لكل مخاطب ممن يعقل من المكلفين، فلا يصلح أن تكون الرسالة مؤقتة كما يقول بعض أهل هذا الزمان: إن الشرائع إنما تناسب البدائيين.
أو: إنها إنما تناسب أهل محمد التي أنزلت عليهم، فلا تناسب أهل هذا الزمان الذين قد تطوروا وقد فهموا، وقد تعلموا كذا وكذا.
وهذا كذب، بل شريعته عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يدخلها تغيير، ولا يمكن أن يكون فيها خلل، وهي تصلح لتطبيقها في هذا الزمان وفي الأزمنة التي قبله وفي الأزمنة التي بعده.