والقصة الثالثة مع النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانياً، وكان أيضاً معه معرفة بالكتب، ومعرفة بصفة الأنبياء وغيرهم، فلما جاءه المهاجرون ونزلوا بالحبشة هرباً من أذى قريش وأقاموا عنده، أحضرهم وسمع ما قالوه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقرءوا عليه بعضاً من القرآن فبكى وخشع وآمن، وأقسم بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق، وأخبر أن مقالته في عيسى هي المقالة الصحيحة، وأنه لم يتجاوز ما هو عليه مثقال هذه - وأشار إلى عود كان بيده ينكب به-، مما يدل على أنه صدقه وصحح رسالته.
فعرف ذلك مع أنه ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ما جاء به، وسمع القرآن الذي أنزل عليه، وسمع بعض صفاته، فاستدل بها على صدقه وصحة رسالته، وآمن به، وكان يهدي إليه ويكاتبه، وأصدق عنه أم حبيبة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها، وأرسلها إليه عليه الصلاة والسلام، كل ذلك دليل على أنه قام معه وأنه صدقه، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما سمع بموته، وذلك كله دليل على أنه كان من المصدقين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
عرف ذلك مع أنه ما رآه، ولو رآه لازداد يقيناً بصحة ما جاء به وبصدقه.
فهذا دليل على أن الصادق يعرف الناس صدقه بأدنى ما يسمعون من خبره.