للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كل إنسان وكل به قرين من الجن وقرين من الملائكة]

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) ، الرواية بفتح الميم من (فأسلمَ) ، ومن رواه (فأسلمُ) برفع الميم فقد حرف لفظه، ومعنى فأسلم أي: فاستسلم وانقاد لي في أصح القولين؛ ولهذا قال: (فلا يأمرني إلا بخير) ، ومن قال: إن الشيطان صار مؤمناً فقد حرف معناه فإن الشيطان لا يكون مؤمناً.

ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١] قيل: حفظهم لهم من أمر الله، أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لهذا قراءة من قرأ: (يحفظونه بأمر الله) .

وقد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:١٢] ، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، قال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) ، خرجاهما في الصحيحين واللفظ لـ مسلم] .

الحديث الذي بدأ به الشارح فيه بيان أن الإنسان موكل به ملائكة يأمرونه بالخير، وهناك شياطين يأمرون الناس بالشر، يسمى هذا قرين وهذا قرين، الجني الذي هو الشيطان قرين سوء، والملك قرين خير، ورد في بعض الأحاديث: (إن للشيطان بقلب الإنسان لمة، وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر، ولمة الملك إيعاد بالخير) ، أو كما في الحديث.

إبليس من أهل النار، ومن المعذبين بالنار، وهو مخلوق من النار، والشياطين خلقوا من النار، فأقدم على العذاب، وأقدم على اللعنة، وأقسم أن يغوي جنس الإنسان، وأن يحرص على أن يخرجهم من الإيمان، أقسم بذلك وقال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} [النساء:١١٩-١٢٠] .

فهذا الشيطان عدو للإنسان، ليس من جنس بني آدم أحد إلا وقد وكل به أو سلط عليه شيطان، ووكل به ملك، فالملك يأمره بالخير، والشيطان يأمره بالشر.

الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت يا رسول الله مثلنا يعني: هل وكل بك ملك وشيطان؟ قال: نعم، ولكن الشيطان الذي وكل بالنبي صلى الله عليه وسلم أعانه عليه، فقال: (أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير) ، وليس معناه: أنه أصبح مسلماً، بل المراد أنه أذعن واستسلم، ولم يعد يأمر إلا بالخير؛ وذلك لأن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يتسلط عليه الشيطان، فأعانه عليه، كما أن الله تعالى سخر الشياطين لسليمان أحد أنبياء الله تعالى، وذللهم له، فصاروا يعملون عنده، يقول تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:٣٧-٣٨] سخرهم الله لسليمان، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فذلل الله له ذلك الشيطان فلم يعد يأمره إلا بخير، أما جنس بني آدم فكل إنسان لابد أن يتسلط عليه هذا الشيطان ويوسوس له، فإذا رزقه الله الإيمان، ورزقه قوة اليقين، فإن تلك الوساوس التي يوسوس بها لا تبقى في قلبه، ولا يصدق بها، بل ينكرها ويدفعها، وهذا حقيقة المؤمن الصحيح الإيمان، ثم يعوضه الله أن الملك الذي هو قرينه يثبته، ويذكره، وينشطه، ويدفعه ويدعوه إلى الخير، ويحثه عليه، فيقوى الجانب الإيماني، وإذا قوي الجانب الإيماني عزم على الأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة، فهذا هو المؤمن القوي، أما الذي إيمانه ضعيف فإن الشيطان يتقوى عليه، وتتمكن وسوسته من قلبه، وتصده عن الهدى، وتوقعه في الردى، ولا يطيع نصح الناصحين، ولا ينيب إلى لمة الملك، ولا يلتفت إليها، فيبقى بعيداً عن الخير، مقبلاً على الشر، فهكذا كل إنسان إما أن يكون إيمانه ضعيفاً فيقوى عليه قرين السوء وهو الشيطان، وإما أن يكون إيمانه قوياً فيقوى عليه قرين الخير وهو الملك.

والقوة والضعف ليست بالقوة البدنية، ولكنها القوة الإيمانية، القوة قوة الإيمان، كون الإيمان راسخاً في القلب، إذا جاءته وساوس الشيطان اضمحلت، وإذا جاءته تثبيتات الملك تمكنت وقويت، فهذا هو السبب في انقسام الناس إلى من يكون عدواً لله ومن يكون ولياً لله، من يكون ولياً للشيطان ومن يكون ولياً للرحمن، فأولياء الرحمن هم الذين أطاعوا الله تعالى، وأطاعوا رسله، وصارت الملائكة الذين معهم يرشدونهم إلى الخير، فيتبعونهم، وأولياء الشياطين هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.