[فطرة الله تعالى في خلقه وما يصرفها]
فلما فطر الله الناس على الإسلام كانوا بذلك مستعدين لمعرفته ولمعرفة ما خلق له، ولكن صرفتهم الصوارف وصدتهم الصدود، واجتذبتهم الأهواء والأديان الباطلة التي تلقوها، هذا قول في هذه الآية.
وصحيح أن الله تعالى جعل للإنسان عقلاً وفكراً، وبدون هذا العقل والفكر يسقط عنه التكليف، فإذا سقط عقله وإذا سلب تفكيره وإدراكه سقطت عنه التكاليف، وما دام أن معه فطرته ومعه عقليته فإنه مكلف، حتى ولو لم تأتِه الشريعة، حتى ولو لم يسمع بها، ولكن إذا نشأ عاقلاً عرف أنه ليس بمُهمل، وأن هذا الكون كله لا بد له من موجِد، وأن الذي أوجده لا بد له من حقوق على عباده، فيبحث بعد ذلك.
ولما كانت الفطرة والعقليات لا يُمكن أن تفصل الحقوق التي لله سبحانه بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليبينوا تلك الحقوق، فكأنه يقول: أنتم بفطركم وعقولكم تعرفون أنكم مخلوقون وأن لكم خالقاً وأن لخالقكم عليكم حقوقاً، ولكن هذه الحقوق نحن نبينها لكم ونفصلها لكم، فنقول: من حقوق الله كذا، ومن حقوقه كذا، ومما أمركم به كذا، ومما نهاكم عنه كذا، فامتثِلوا، وإذا امتثلتم فإن لكم الثواب على كذا، وإذا لم تمتثلوا بل خالفتم فإن عليكم العقاب.
وهذه وظيفة الرسل، جاءوا مبينين لما في فطرة الإنسان من العلوم مفصلين لها.
فهذا قولٌ من الأقوال في هذه الآية.
وقد دلت الأدلة على أن الله سبحانه جعل للإنسان معرفة بها يدرك ما أمامه وما خلفه، ولكن تلك الأدلة تتغير بتغير ما يفسدها وما يمازجها، إما من العلوم وإما من الأعمال وإما من الأشخاص.
فكثير من العلوم تصرف الفطرة، حتى يرى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وكثير من المجتمعات والمخالَطات تصرف الفطرة، فزملاؤه وأخلاؤه وإخوته ومعاشروه يفسدون عليه عقله ويفسدون عليه فطرته، وينكسون معرفته ويبقى لا يعرف إلا ما يألفه، فلا يعرف أن الخير خير ولا أن الشر شر، فيستحسن القبيح ويستقبح الحسن.
وكثير من الشبهات التي يروجها أهلها تفسد الفطرة أيضاً، فينقلب فيها الحق باطلاً والباطل حقاً، ولو سلم الناس من هذه الأشياء لبقوا على فطرتهم.
وعلى هذا فيقال: إن دين الإسلام هو دين الفطرة، هو الدين الذي تشهد العقول السليمة بحسنه وملاءمته، ولقد روي أن أعرابياً أسلم لأول ما دُعي وقال: إني رأيت هذا الدين ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه! ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به.
وقد ذهب بعض المبتدعة إلى أن العقل له دخل في التحسين والتقبيح، وجعلوه مقدماً على الشرع، وهذا قول خطأ، ولو قيل بالتحسين والتقبيح العقليين، ولكن لا دخل للعقل فيما يخالف الشرع، إذا جاء الشرع وجاءت النصوص قدمت على ما تستحسنه العقول مهما كانت تلك العقول، فليس للعقل مدخل ما دام أن الشرع وُجِد ناصاً على حكم من الأحكام، فيقدم حكم الشرع على جميع العقول.
ومع ذلك فإن العقول الصريحة لا يمكن أن تخالف النقول والأدلة الواضحة الصحيحة، وقد ألف في ذلك ابن تيمية كتاباً مشهوراً سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فـ (صحيح المنقول) يعني الأحاديث والأدلة الصحيحة، و (صريح المعقول) هو العقول السليمة؛ يعني أن العقول السليمة لا تخالف النقول الصحيحة.