[التفضيل لا يعود إلى ذات الغنى والفقر وإنما إلى ما خصهما من تقوى]
فإذا نظرنا في الأدلة التي يُستدل بها من حيث النقل: الآيات والأحاديث، وجدناها كلها تفضل الفقير، وتحث على التقلل من طلب الدنيا، وتحث على الزهد فيها، وتضرب لها الأمثال، وقد أورد ابن القيم جملة كثيرة من ذلك، مع أنه ذكر أنه اقتصر على البعض ولم يستوفها، ولو استوفاها لزادت على ما ذكره أضعافاً كثيرة.
وأما الأدلة العقلية فإنها تفضل الشاكر الذي رزقه الله مالاً.
ومعلومٌ أن المال لا يحصل إلا بتسبُّب وبتعب وبكدح وبكد وبطلب، وأن هذا الطلب يحتاج إلى وقت وزمان، فلأجل ذلك كان الفقير متفرغاً للعبادة منقطعاً لها، وأما الغني فلا بد أن تكون له أوقات يقضيها في طلب المال، ويقضيها في تنميته، وفي تصريفه، وفي حساباته ونحو ذلك، فيكون جل وقته أو أكثره فيما يتعلق بأمور حياته الدنيا، ويكون وقته الذي يقضيه للعبادة أقل بأضعاف من الوقت الذي يقضيه الفقراء في العبادات ونحوها، فلأجل ذلك مال بعضهم إلى تفضيل الفقير.
وسمعنا هذا القول الذي اختاره الشارح، وهو أن أكثرهما تقوىً أكثرهما عبادة أكثرهما أعمالاً صالحةً، فإذا وفق الله الغني وأكثر من الصالحات وصار لا تلهيه أمواله ولا أولاده عن ذكر الله، فإنه يفضل غيره، كما وصف الله الأغنياء بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧] .
فإذاً: لا بد أن تكون لهم تجارة ولهم بيع ولهم تنمية أموال؛ ولكن إذا جاء وقت العبادة تخلوا عن الدنيا وعن متاعها كله، وأقبلوا على العبادة، وإذا جاءت أوقات المنافسات والخيرات سارعوا إليها.
فإذاً: هؤلاء قد جمعوا بين الأمرين: جمعوا بين أنهم كانوا أهل تقوى وأهل إيمان وأهل أعمال صالحة وحسنات وخيرات كثيرة، وبين أن لهم أعمالاً متعدية بحيث إنهم وصلوا الأرحام، وأنفقوا في سبيل الله، وجهَّزوا الغزاة مثلاً، وأقاموا المشروعات الخيرية، ونشروا العلم، وبنوا بيوت الله، وأقاموا فيها الأماكن التي يُتَعَلَّم فيها ويُقْرأ، فكانوا بذلك نافعين لأنفسهم ونافعين لغيرهم، فكانوا بذلك أفضل.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيح أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور يعني: أهل الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق فقال: ألا أدلكم على عمل إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدرككم من بعدكم إلا من عمل مثلكم؟ قولوا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فذهبوا وقالوها، ثم إن الأغنياء نُقِل إليهم ذلك ففعلوا، فقال الفقراء: يا رسول الله! سمع إخواننا أهل الأموال بما قلنا فقالوا مثلنا، فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) .
فغبط الأغنياء الذين ما شغلهم مالهم عن عبادتهم ولا عن أذكارهم ولا عن أعمالهم.
وبكل حال فالشكر والصبر كلاهما من الأعمال القلبية، ويُرى آثارها على الأعمال البدنية، وأما الأعمال الصالحة فإنها زيادة على ذلك، أعني أن التقوى والإيمان والصلاح وكثرة الخيرات وكثرة الحسنات ناتجة مما في القلب، وأما الشكر والصبر فهما من الصفات الظاهرة حتى يمكن أن يُحكم بتساويهما.
ويمكن أن يقال: ما قيل في الشاكر والصابر يقال في أمثالهما، فيقال مثلاً: المبتلى والمعافى كذلك، إنسان ابتُلي ولكنه احتسب، وآخر عوفي ولكنه شكر، فهما سواء، وكذلك مثلاً: إنسان أُعطي فشكر ربه، وآخر مُنع فحمد ربه.
وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين أن تكون له جبال مكة ذهباً وبين أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، فاختار أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، وقال: إذا جُعتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتك) ، فجعل الله ذلك مرتبة أفضل من أن تكون له الدنيا.
وقد ذكر الله تعالى أنه أعطى من قبله من الأنبياء من الدنيا ومع ذلك لم ينقصهم من مرتبتهم عنده، كما أعطى سليمان، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:٣٦] إلى قوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٩] ؛ لكن رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وصبره على ما أوتي وتقلله ودعاؤه بقوله: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً) ، أفضل من رتبة سليمان، مع أن سليمان شاكر لربه كما حكى الله عنه أنه قال لما أتي بعرش بلقيس: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:٤٠] .