[مرتبة الإعلام]
قال رحمه الله: [وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر؛ تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأبرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به.
وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:١٨] ، وقال آخر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:١٧] فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.
والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله] .
هذه المرتبة الثالثة التي هي إعلام الغير، يقول: إن الله شهد لنفسه بالإلهية، ومن آثار الشهادة ومن تمامها أن أعلم غيره بأنه: (لا إله إلا هو) وهذا الإعلام ذكر أنه يكون بأمرين: إعلام بالفعل، وإعلام بالقول.
إعلام الله لخلقه بالقول هو ما تضمنه كلامه الذي أوحاه إلى رسله، فإنه أرسل الرسل وأوحى إلى كل منهم بهذا التوحيد، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] .
فهذا إعلام بالقول حيث أعلم كل نبي بواسطة الملائكة بهذا النوع الذي هو توحيد العبادة، وكذلك أنزل إلى كل نبي كتباً أو صحفاً، وضمن تلك الكتب كلامه الذي يتضمن توحيده وشرعه.
وأما الإعلام بالفعل: فهو ما نصبه تعالى من الآيات والدلالات التي من تأملها عرف حقيقة التوحيد، وعرف الدين الحق، وعرف أن الله هو الواحد الأحد، فإنه سبحانه نصب الآيات، ولفت إليها الأنظار، فلأجل هذا يذكر عباده بالمخلوقات التي خلقها، فيخبرهم بخلقهم أنفسهم، وبخلق ما على الأرض من الدواب، ويخبرهم بخلق الأرض، واختلاف ما فيها من جبال ومن مهاد ومن بحار ومن أنهار ومن أشجار ومن ثمار وما أشبه ذلك، وهكذا يلفت أنظارهم إلى ما فوقهم من الرياح ومن السحب، ومن الأفلاك وما فيها من النجوم السيارة والثابتة وما أشبهها، كل ذلك من الآيات التي نصبها لعباده يعلمهم بها التوحيد، كأنه يقول: تعلموا من هذه الآيات دلالتها على أن الخالق لها هو الواحد الأحد، وهو المستحق بأن يعبد ويفرد.
فشهد بالقول بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥] .
وشهد بالفعل، بأن أعلم عباده بالفعل؛ فنصب الآيات والدلالات حتى يعلموا منها قدرته تعالى على كل شيء واستحقاقه لأن يؤله وحده، وأن لا يؤله معه غيره.
يذكر الشارح أن الإعلام يكون بالقول وبالفعل حتى منا، فالواحد منا عليه أن يعلم الناس بما يعتقده، نحن نعتقد أن لا إله إلا الله، فنخبر بأنا نعتقد ذلك، وهذا الإخبار يقتضي الإعلام، فنقول: اعلموا بأنا نعتقد أن الله هو الإله الحق، فهذا إعلام بالقول.
وأما الإعلام بالفعل فهو أفعال الإنسان، فأنت إذا رأيت المؤمن التقي الموحد يمد يديه إلى ربه يتضرع إليه، عرفت أنه يعبد إلهاً واحداً، وكذلك إذا رأيته يركع له ويسجد، يقوم له ويقعد، يخضع له ويتواضع، عرفت من ذلك أنه يعبد إلهاً واحداً، فأعلمك هذا العابد بقوله وأعلمك بفعله، فالإعلام يكون بالأمرين، بالقول وبالفعل.
فمثلاً: الذي بنى هذا المسجد ما قال للناس: أيها الناس هذا وقف، بل لما بناه على هيئة المسجد وفتح أبوابه وشرع للناس ليجتمعوا فيه وليقيموا فيه الصلوات، وليحضر فيه الخطب والحلقات، كان ذلك إعلاماً بالفعل وإن لم يكن إعلاماً بالقول.
فكذلك إذا أعلمك طالب العلم أو المسلم بفعله أنه يعبد الله وحده فإن ذلك كاف في الإعلام.