[المطاعون في مواضع الاجتهاد]
قال الشارح رحمه الله: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.
يروى عن أبي يوسف أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـ أبي يوسف: أصليت خلفه؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين، يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع.
وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن رسول الله قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظور اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد] .
قد وردت أدلة في طاعة ولاة الأمور مذكورة في كتب العقائد وكتب الأحكام، وكل يطاع حسب ولايته، وكل له ولاية تخصه، فهناك الخليفة الذي تحت ولايته جميع المسلمين، في شرق الأرض وغربها، كما كان الخلفاء الراشدون، وكذلك خلفاء بني أمية وبني عباس كانت خلافتهم عامة لجميع البلاد الإسلامية، فطاعتهم فيما أمروا به إذا لم يكن معصية تعتبر من طاعة الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) ، فهذه ولاية عامة.
وهناك ولاية أخص منها، مثل: ولاية أمير الحجاج، وولاية أمير المجاهدين، فإنهم مأمورون بأن يؤمروا عليهم أحدهم، بل كل من سافر سفراً ولو قصيراً وكانوا جماعة، عليهم أن يؤمروا، كما في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يسافرون إلا أمروا واحدا ًمنهم) ، أو كما ورد في الأحاديث، فهذا الأمير الذي يؤمرونه عليهم أن يطيعوه ما لم يأمر بمعصية، أما إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وقد اشتهر حديث عبد الله بن حذافة لما أمره صلى الله عليه وسلم على سرية، وأمر الصحابة الذين معه أن يطيعوه، فسار بهم أياماً، ولما كانوا مرة في مكان نازلين، كأنه غضب على بعضهم، فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وقال لهم: ادخلوها، أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، فهم بعضهم أن يدخلها! ثم قالوا: ما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خوفاً من النار، فما زالوا يتحاججون حتى طفئت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف) ، فأمرهم بطاعته، ولكن بين في هذا الحديث أن الطاعة إنما تكون فيما كان معروفاً، فأما مثل هذا فلا طاعة.
وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، فإذا أمر الوالي بمعصية فلا سمع ولا طاعة، أما إذا أمر بطاعة أو أمر بما فيه مصلحة، أو أمر بما هو اجتهاد فإن أتباعه والذين تحته يطيعونه ولا يخرجون عن طاعته، هذه هي وظيفة أتباعه، وسواء كانت إمارة في بلد، أو على جيش، أو سرية، أو على غزو، أو على حجاج، أو عامل زكاة يذهب لجمع الزكاة ونحوها، كل هؤلاء لهم ولاية بحسبهم.
وكذلك من جعل رئيساً أو مديراً لمؤسسة من المؤسسات، أو دائرة من الدوائر الحكومية أو نحو ذلك، وجعل تحته من يخدمه أو من يعمل، وكانوا تحت ولايته، فإن عليهم أن يقدروا ما يأمرهم به، بشرط ألا يأمرهم بمعصية تخالف نصاً صريحاً، فهذه وظيفة هؤلاء أنهم ينفذون، ولكن بكل حال طاعتهم تكون بقدر المصلحة التي يؤمرون بها، ومعلوم أن ولايتهم إنما هي خاصة في محيطهم، وأما إذا كان الإنسان خارجاً عن ولايتهم، كما إذا انتهى من شغله معهم، أو كان في بيته أو في سوقه فليس لهم ولاية عليه.
ومعلوم أن أمير الجيش أو أمير البلد أو أمير الدائرة ونحوها بشر، وليس بمعصوم، وليست أقواله كلها صريحة في أنها واقعية، بل كثيراً ما يفعل الشيء ويكون عن اجتهاد، فعلى أتباعه ووزرائه وزملائه أن يشيروا عليه بما يرون فيه المصلحة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ويقبل إشاراتهم ويقبل اقتراحاتهم، ولذلك أمثلة: لما غزا غزوة بدر ونزل منزلاً قرب بدر، قال له بعض أصحابة: هذا المنزل يا رسول الله أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والمكيدة، فقال: إن هذا غير مناسب، وإن المناسب أن ننزل في المكان الفلاني، فنكون قد حلنا فيه بين القوم وبين المياه، فقبل رأيه) .
وهذا دليل على أنه إذا أشار عليه بعض أبتاعه برأي أو بنظر فعليه قبول ذلك إذا كانت فيه مصلحة.
وكذلك لما جاء الأحزاب وأحدقوا بالمدينة، وكانوا من قريش وغطفان، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان بثلث الثمار، فاستشار أهل المدينة، فقالوا: إن كان هذا وحياً من الله فسمعاً وطاعة، وإن كان باجتهاد فلا نعطيهم إلا حد السيف، فقبل إشارتهم وقبل رأيهم، وهذا دليل على أن أتباع الوالي قد يشيرون عليه وينظرون له نظرة مناسبة.
فعلى كل حال نقول: لا شك أن الولاة ليسوا بمعصومين، وأن أتباعهم مأمورون بأن يرشدوهم ويدلوهم على المصالح، وعلى ما فيه الخير لهم، وللمجتمع، ولكن إذا اختير للإدارة أو للولاية المتأهل والفاضل الذي تجتمع فيه الصفات التي تؤهله لهذا المنصب فليس لأحد الاعتراض عليه، إلا على وجه النظر، أو على وجه الإشارة.