[إعجاز القرآن في اللفظ والمعنى دليل على أنه كلام الله]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه قول البشر) ، يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧] ، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:٨٨] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:١٣] ، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:٣٨] ، فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله، تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله.
وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية.
فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن، كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:١-٢] ، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [آل عمران:١-٣] الآية، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:١-٢] ، وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:١] .
وكذلك الباقي، ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه بل خاطبكم بلسانكم.
ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبرائيل منه، كما يتذرعون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، كما أن في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:٣٨] ما يرد على من ينفي الحرف؛ فإنه قال: ((فأتوا بسورة)) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات، ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك.
والله أعلم] .
هذا رد على هؤلاء الذين يدعون أن هذا القرآن ليس هو كلام الله إنما كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وقد عرفنا أن الإعجاز الذي تحدى الله به البشر هو المعنى واللفظ، ففي قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهَِ} [البقرة:٢٣] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:١٣] يراد بذلك: ائتوا بما يحصل به الإعجاز، وذلك بأقل سور القرآن كسورة الكوثر، وسورة الإخلاص، ولا شك أن هذه السور تتركب من كلمات وحروف، وأن هذه الحروف التي تركبت منها هي من جنس ما يتكلم به العرب، والعرب ينطقون بهذه الحروف، لا ينطقون إلا بثمانية وعشرين حرفاً، وهي التي في لغتهم، والحروف التي ينطق بها الأعاجم زائدة عليها لم يعتبروها، وقد سجلوا هذه الحروف، وكتبوا كل حرف وجعلوا له هيكلاً وصورة حتى ينطقوا بهذه الكلمات إذا جمعت الحروف بعضها إلى بعض، وإذا كان كذلك فإن أكثر الكلام هو ما جمع اللفظ والمعنى.
وقد ذكر النحويون أن الكلام عبارة عما أفاد، وكان مشتملاً على بعض الحروف الهجائية، وكان ذا معنى مفيد، وكان مركباً من كلمتين فأكثر، وكانت الكلمات مما وضعته العرب، أي: مما تكلمت به، لا أنه بالكلمات الأعجمية، ولا بالحروف اللاتينية أو بالحروف الأردية أو غير ذلك من الكلمات التي لا تعرفها العرب، فلا شك أن هذه لا تسمى كلاماً.
ففي كتاب العقيدة في آخر الكلام على القرآن وأنه كلام الله تعالى الرد على من زعم أنه مفترى، وأن من قال ذلك فإنه كافر، وهكذا من زعم أنه من إنشاء أي بشر.
دليل ذلك قول الله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٤-٢٥] ، فوعده الله فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦] يعني: من قال بهذه المقالة فإنه يستحق أن يصلى بسقر، وهي من أسماء النار، ولا شك أن ذلك إنكار لأن يكون القرآن من كلام الله، وإنكار أن يكون معجزة لنبيه عليه الصلاة والسلام، وادعاء أنه من كلام محمد أو من كلام غيره من البشر.
وقد حكى الله تعالى عن بعض الكفار أنهم قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:١٠٣] ادعوا أن الذي يتعلم منه إنسان بمكة كان أعجمياً، قال الله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣] يعني: أن ذلك الذي يدعون أنه هو الذي علم محمداً هذا القرآن ليس فصيحاً بالعربية بل هو أعجمي، أما هذا القرآن فإنه كلام عربي فصيح واضح، ليس فيه شيء من العجمة ولا من اللكنة ولا من الوصمة أو العيب، بل هو كلام الله.
وكذلك أيضاً حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:١١٠] ، وقالوا: إنه لقول شاعر، وقال بعضهم: بل هو قول كاهن.
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:٥] و (الأساطير) أي: الأكاذيب التي جمعها الأولون، والتي هي من كلام الأولين، ادعوا أن محمداً جمعها، وأن هناك من يأخذها منه فهي تملى عليه بكرة وعشياً، أي: أول النهار وآخره، فأخبر تعالى بأنه كلام الله حيث قال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الفرقان:٥] ، ثم قال: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٦] .
وعلى كل حال فمهما قال الذين لفقوا هذه الأقاويل من الأولين والآخرين، فقد رد الله عليهم، وقد فضح أكاذيبهم، وما بقي إلا القول الحق وهو عقيدة كل مسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله، وأنه أنزله على أنبيائه، وأنه أرسل به رسله، فهو من جنس الكتب التي أنزل بها ملائكته على رسله، وجعلها معجزة لهم وآية لهم تدل على صدقهم، فآخر هذه الكتب هو هذا القرآن الذي من الله ببقائه على هذه الأمة، وجعله معجزة لهذا النبي الكريم، فعلينا أن نعتقد فيه أنه آية ودلالة ومعجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأن نتلوه حق تلاوته، وأن نتدبره ونعمل بما فيه حتى نكون من الذين يؤمنون به ويتبعونه ويتلونه حق تلاوته.