للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام على حديث: (لو عذب الله أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم)]

قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو داود، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس، وعبادة بن الصامت، وزيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) .

وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل! وأسعد الناس به أهل السنة، الذين قابلوه بالتصديق، وعلموا من عظمة الله وجلاله قدْر نعم الله على خلقه، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم، إما عجزاً، وإما جهلاً، وإما تفريطاً وإضاعة، وإما تقصيراً في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وتكون قوة الحب والإنابة، والتوكل والخشية، والمراقبة والخوف والرجاء: جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به، بحيث يكون القلب عاكفاً على محبته وتأليهه، بل على إفراده بذلك، واللسان محبوساً على ذكره، والجوارح وقفاً على طاعته.

ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس تشح به، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى، وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه، وإن أتى به من وجه آخر.

فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟! ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له، ولو في وقت من الأوقات؟! فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله، ولم يكن ظالماً لهم.

وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالماً، ولو قدر أنه تاب منها، لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب، وكتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل الجنة، كما قال أطوع الناس لربه، وأفضلهم عملاً، وأشدهم تعظيماً لربه وإجلالاً صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، فإذا كان هذا حال الصديق -الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين- فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقاً بتوفيته هذا المقام حقه، الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته، وما ينبغي له، وما يستحقه على عبده، ومعرفة تقصيره.

فسحقاً وبعداً لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه، ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية! فإن لم يتسع فهمك لهذا؛ فانزل إلى وطأة النِّعم، وما عليها من الحقوق، ووازن بين شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] .

هذا الكلام دائر حول هذا الحديث.

وهذا الحديث أنكرته المعتزلة، واحتجت به الجبرية، ولكنه حجة لأهل الحق وهم أهل السنة، صحيح أن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ وذلك لأن ما عملوه من الأعمال فهو بفضله، فهو الذي هداهم، وهو الذي أعطاهم، وهو الذي خولهم، وهو الذي سخر لهم، إذاً: فإذا عذبهم فإنه لابد أن يعذبهم على شيء من التقصير، حتى ولو كانوا مؤمنين ومتقين؛ لأن هذا الإيمان وهذا التقى محض عطاء الله ومحض فضله.